ضابط على خط تماس الأمم

تستطيع القول في عباس إبراهيم ما تشاء، سلباً أم إيجاباً.. طالما أن الرجل يعمل في حقول عامة متعددة، ويلامس خطوط تماس كبيرة.

ما يسجل له، من خُصومه قبل أصدقائه، أنه عندما خلع البدلة المرقطة، ازداد تمسكاً ببدلة الدولة.. لكأنه آتٍ من زمن وقماشة مختلفين.

شخصية أمنية ـ سياسية بالفطرة لا تنقصها الشجاعة من جهة والحنكة الديبلوماسية من جهة ثانية، إلى حد إشعار مَن يعنيهم الأمر أن لبنان ليس كله بلد طوائف ومذاهب بل هناك من يعتدّون بوطنيتهم ويتلقفون المهام الصعبة، ولو كانت مصنفة في خانة «المستحيلات» عند آخرين.

تقاعَد أبطال «رواية أعزاز» التي نُسجت فصولها بين بيروت وتركيا وقطر وسوريا إلا «ضابط إيقاع» خاتمتها السعيدة. فقد أنهى اللواء إبراهيم ملفاً ليكلف نفسه بملفات أكثر حساسية وتعقيداً وخطورة، بينها ملف خطف المطرانين، مستفيداً من عناصر المصداقية وتراكم الخبرة والعلاقات المتشعبة.

منذ البداية، أعطى إبراهيم ملف المخطوفين ما يحتاجه من وقت، لكن ليس على حساب المديرية. كلّفه الرئيس ميشال سليمان بالمهمّة، ولم تمض ساعات قليلة، حتى كانت فرق العمل في المديرية تتوزّع المهام. جمع المعلومات والتدقيق بها والرصد والتحليل ومتابعة وسائل الإعلام الخ.

وبنَفس طويل، ومن دون إلزام نفسه بمُهل، قاد سفينة المفاوضات، وكان المبادر دائماً لرسم خريطة الطريق ومحاولة إلزام الأطراف بها. تتحول الكلمة على طاولة المفاوضات إلى فرصة.. والواقعة إلى دليل.. وما أسهل إحراج الآخرين خاصة عندما تظهر لهم أحياناً أنك أحرص منهم على أمنهم ومصلحتهم الوطنية.. والدليل إصرار إبراهيم على رفض العرض التركي بجعل المخطوفين التركيين في صلب أية عملية تبادل، لأنهما خطفا على أرض لبنان.. وبالتالي، تقع على الدولة اللبنانية وحدها مسؤولية الإفراج عنهما. في كل محطات ملفّ أعزاز، لم يسمح إبراهيم للضغوط النفسية أن تقف حائلاً بينه وبين هدف وضعه نصب عينيه. يتمتع الرجل بمناعة عالية ضد الكسل والروتين. لم يخطئ الرئيس نبيه بري عندما قال أن المثابرة والعناد من قبل الممسك بالملف ساهم في إيصاله إلى خواتيمه السعيدة.. وإلا كان مصير هؤلاء مثل عشرات آلاف المخطوفين والمفقودين في لبنان وسوريا.

دقّ أبواب قطر، تركيا، سوريا، فلسطين. جس نبض سعد الحريري. عرض إغراءات على أجهزة استخباراتية غربية عدة. في المحصلة، تبين له أن الخاطفين مجرد واجهة. لم يحتج الأمر إلى أكثر من اتصال تلفوني واحد مع سمير العموري ومن ثم مواجهته وجهاً لوجه، حتى يفهم كيف يفكر هذا الرجل وهل القرار بيده أم بيد آخرين؟

وبينما كان مطار بيروت يطوف بالوافدين إليه من كل حدب وصوب للاحتفال بحرية العائدين من أعزاز في الخامس والعشرين من أيار 2012، التزم إبراهيم بنصيحة صديقه التركي مدير المخابرات الدكتور حقان فيدان بأن معطياته تشي بعكس المعلن. وعندما انطلت شائعة مقتل المخطوفين على كثيرين، تلقى إبراهيم اتصالاً من فيدان يعلمه فيه أنهم بخير.

12 زيارة إلى تركيا، خمس زيارات إلى قطر، عشرات الزيارات إلى دمشق. حصيلة طبيعية لمهمّة شائكة. كان التمويه الأمني حاضراً بقوة. يُعلن خبر وصول المدير العام الى تركيا، فيكون الأخير متواجداً في دولة أخرى. لا أحد يعلم متى يصل ومتى يغادر، إلا حلقة ضيقة جداً.

ينتهي اللواء من جلسته مع الديبلوماسي الفلسطيني المخضرم في أنقرة نبيل معروف ويقفل عائداً إلى بيروت، فيتلقى اتصالاً من الأتراك سائلين إياه «هل كنت عندنا»؟ ينصحونه بتوخّي الحذر «حرصاً على سلامتك. نية الأتراك طيبة، لكن «أمن» المدير العام كان يمكّنه من دخول انقرة ومغادرتها من دون علم السلطات التركية!

سبق لابراهيم حين كان رئيساً لفرع مخابرات الجيش في الجنوب أن دخل إلى عين الحلوة في عز مقارعته مجموعات «جهادية» في المخيم. فوجئ مدير المخابرات السابق العميد جورج خوري باقتحامية ممثله في الجنوب، فكان لا بدّ من تنويه مشترك منه ومن قائد الجيش (آنذاك) ميشال سليمان.

يزهو إبراهيم بإنجاز يجيّره، لا شعورياً، للدولة أولاً وللمديرية ثانياً. ثمة معادلة صلبة تحكم قناعاته. يذهب الشخص وتبقى المؤسسة. في عزّ انشغاله بمخطوفي اعزاز، تضاعفت إنتاجية المؤسسة. لا يتعب الرجل من تعدد الجبهات والملفات. تشي روزنامته بأدوار وأعباء أكبر.. ومهام أصعب.. بينما لا تتوقف دوائر الحسد عن الثرثرة، خاصة عندما يصبح «المتهم» جزءاً من «لعبة أمم».. وموضوعاً اسمه على لائحة مواعيد رؤساء وقادة دول وأجهزة استخبارات شرقاً وغرباً.

السابق
لقد أصبحتم مثارا للسخرية!
التالي
جون كيري.. واختلاف الحساسية