“من هوايا ومن جنوني”

السيسي

عاد صديقي بعد رحلة قصيرة الى مصر، هو يغني لازمة من أغنية عبد الحليم حافظ “لاتكذبي”، وهي تقول: “ولقد صنعتكِ من هوايا ومن جنوني…”، معتقداً إنه بذلك يعطي تفسيراً، أو قليلاً منه، لذاك الحب الجارف، الجنوني، لقائد القوات المسلحة، عبد الفتاح السيسي… من “النخبة” والشعب في آن.
ماذا؟ كيف تتجرأ يا صديقي على وضع السياسة بمصاف أغنية غرامية؟
“مهلاً”، يجيب، “ألا تعرفين تلك الميكانزمات التي تسِم قصص الغرام الجانحة، غير المنطقية؟ غير المتناسبة الأطراف؟ غير مكتوب لها الدوام؟ سأبدأ من الأساس، حيث يكون الواحد، أو الواحدة، في حاجة شديدة إلى من يحب، حباً يحييه من الموات الذي حوله، على ما يتصور؛ ويكون في هذه الأثناء قد مضى حثيثاً في رسم ملامح، أو صفات المحبوب، التي تناسب طبائعه أو ذوقه. ثم يلتقي بمن يعتقد انه حامل هذه الأوصاف، يصبّ عليه تلك الأوصاف، فهي في الواقع غير موجودة إلا في خياله المعمِّر”.
ثم ينتقل صديقي الى المستوى الأرقى من “نظريته”، فيقول: “قد يكون لعبد الفتاح السيسي صفات حميدة تجعله صالحاً لحكم مصر؛ وإن كنتُ أراه بعيدٌ عنها، بُعد العسكر عن الحكم المدني الصالح، قبل الديموقراطي. قد تكون له هذه الصفات…. قلتُ، ولكن الحاجة الماسة الى قائد، بعد الفوضى العارمة التي أتت على مصر خلال السنوات الثلاث لما بعد الثورة؛ والحاجة الماسة هذه الى قائد قوي يحمي الكيان المصري من الإنهيار تحت وطأة هذه الفوضى، تشبه حالة الباحث الشغوف عن الحب الذي سوف يملأ حياته معانٍ، ولا يعرف هناء العيش من دونها. والميكانيزم نفسه، أيضاً: إذ ان كل الصفات المطلوبة من القائد قد أسقطت على السيسي، فوقع الجميع بغرامه، الشعب والنخبة… والجميع. ولا تستغربي، بعد ذلك، بعد هذا الحب العاصف، أن يأتي يوم، كما مع الذين خاب ظنهم مع المحبوب، يغني فيه الشعب المصري، تلك اللازمة العبقرية لعبد الحليم حافظ “ولقد صنَعتُكَ من هوايا ومن جنوني”! بعد ان يكونوا قد اكتشفوا انهم جبلوه بتراب مخيلتهم، وليس بعقلكهم وتفحصهم وتدقيقهم ومحاسبتهم، وكل القوانين الديموقراطية التي قاموا بالثورة من اجلها”.
لكن صديقي لا يتوقف عند هذا الحدّ: يستعيد أيام الثورة نفسها، فيقول: “بين الثورة والحب أيضا العلاقة قوية. الثورة، تلك الأيام الثمانية عشرة، التي ملأت أنفس المشاركين ببهجة نصف إلهية… بما يشبه النشوة الغرامية، يتمنى كل إنسان أن يعيشها، لشدّة ما تبعث السرور في النفس والروح، وللطاقات الابداعية التي تطلقها في الفن كما في كل شيء. على كل حال، هل تذكرين شهادات الذين اشتركوا فيها، وكأنهم على موعد مع الجنة، غير مدركين ان الآمال الهائلة التي تبعثها الثورات، سوف تصطدم بقساوة الواقع، وعجزه عن استيعاب كل هذه الآمال. وما تلى تلك الثورة كان خير معبّر عن هكذا تحوّل. ثم حصل ما تعرفين، وبعد عامين، صار المصريون يستجيرون بأي طوق نجاة مما هم غارقون فيه، واضعين كل آمالهم وتصوراتهم في أول من يجدونه في طريقهم العريضة، كل من يملك الديناميكية الكافية ليقدم نفسه على هذا الأساس؛ فكان ما كان. مرة أخرى، يلتقي الحب والثورة، بمرحلتها الإنتقالية: بعد الإبتهاج الثوري، يأتي البحث الدؤوب عن الحبيب، الذي نصنعه من هوانا ومن جنوننا؛ ثم تأتي مرحلة إيجاد الحبيب، وبعدها تتفتّح البصيرة على الخيبة، على الحقيقة، بأن كل هذا كان من صنع خيالنا، جموحنا، وان من اخترناه من بين الناس، هو في أبسط التعريفات، أقل من حبنا وخيالنا وجنوحنا”.

السابق
جعجع: نواب الأمة لن يخافوا وسيذهبون الى جلسة انتخاب الرئيس
التالي
لن يرافق سليمان أي وفد رسميّ الى الرياض