8 آذار: جنبلاط توافقيّ عن قناعة

ثمّة معادلة ذهبيّة يبني عليها وليد جنبلاط مواقفه وسياساته أخيراً، ويقيس مواقفه على «ميزان الذهب» الدولي والإقليمي والمحلّي. يطلق على هذه المعادلة صفة «الواقعية السياسية»، يُسمّيها البعض «براغماتية» برَع فيها الرجل منذ دخوله الحياة السياسية في أحلك الظروف. وفي الأحوال كافة يتفق كثيرون، أنّها ساهمت في حماية البلد في الأعوام الثلاثة الأخيرة ولا تزال تشكّل عامل استقرار ينعكس إيجاباً على لبنان.

عندما أعلن رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي ما مفاده أنّ محور “الحرب على سوريا” خسر رهانه، كان يقرأ من كتاب التسويات والتفاهمات المفتوحة في المنطقة. من التفاهم الروسي – الاميركي في شأن الكيماوي السوري، إلى التقدّم الايراني – الاميركي في تحريك الملفّ النووي الايراني في اتجاهات أكثر إيجابية، إلى “الجمود” في الملف السوري من الناحية العسكرية، واتفاق الجميع على “الحلّ السياسي” مدخلاً وحيداً لوقف دوّامة العنف والدمار في سوريا.

بحسب أوساط رفيعة في “8 آذار”، بات جنبلاط متيقّناً من دوران عجلة التفاهمات والتسويات الدولية، ويحرص من خلال مواقفه وتموضعه الوسطي على أن لا يندفع اللبنانيون نحو مواجهات “حادة” تضرب السلم الأهلي والاستقرار اللبناني الهش.

ويظهر هذا جليّاً في تأكيده معادلة “9+ 9+ 6″، صيغة حكومية توافقية. والأهمّ من خلال دعوته عبر برنامج “كلام الناس” مع الزميل مرسيل غانم إلى “نسيان سلاح حزب الله حاليّاً”، والتمسّك بما تبقّى من دولة، والرهان عليها على رغم ضعفها.

وفي مقابل القفز عن مسألة سلاح المقاومة، يؤكّد جنبلاط “اتّفاق الطائف” الذي تعرّض لكدمات قاسية وبات قابلاً للسقوط، وهو في ذلك يبني معادلات متوازنة تمنع انتقال الصراع الدائر في سوريا إلى حرب داخلية لبنانية، بعناوين ليست محلّية وليس في وسع اللبنانيين اتخاذ القرار وحدهم في شأنها.

أمّا في المسألة السورية، فترى الأوساط ذاتها أنّ جنبلاط ليس مرتاحاً لوضع المعارضة في سوريا، وظهر ذلك من خلال ترداده أنّ هذه المعارضة “معارضات”، وأنّ القوى المتشدّدة من “داعش” الى السلفية و”النصرة” هي القوى التي تتقدّم على الارض. وفي ظلّ هذا الوهن في جسم المعارضة، يبدو أنّ جنبلاط “متمسّك ببقاء الدولة السورية والمؤسّسات والجيش”، حتى لا تصبح سوريا دولة فاشلة أو صومال جديداً أو افغانستان جديدة.

وفي هذا السياق، ترَى الأوساط نفسها أنّ “البيك” يعرف في قرارة نفسه أنّ الأزمة طويلة، وأنّ الرئيس السوري بشّار الأسد باقٍ في السلطة، سواءٌ عُقد مؤتمر “جنيف 2” أم لم يُعقد. وعليه، فإنّه يقيم معادلة ترضي السعودية في سوريا من دون أن تزعج إيران، ومعادلة ترضي إيران في لبنان من دون أن تزعج السعودية.

في سوريا يهاجم النظام ويقف إلى جانب ما يسمّيه “تطلّعات الشعب السوري”. وفي لبنان يتحالف ويتقاطع مع حلفاء سوريا لحماية الاستقرار. ويعمل على مواقف توافقية مبنية على قناعة وتجربة ورسوخ.

يعرف جنبلاط أنّ المنطقة على مشرحة “لعبة الأمم”، وأنّ ما يجري من تونس إلى مصر إلى اليمن أكبر من الحسابات اللبنانية والقضايا اللبنانية الرابحة أو الخاسرة. ليس التسليم تماماً ما يجعل جنبلاط محبطاً من مستقبل العالم العربي، بل مجمل المشهد الذي أفضت إليه المنطقة منذ العالم 2011، ولا تزال مستمرّة.

ومن أجل ذلك أنهى حديثه التلفزيوني بكلام عميق عن لسان والدته الراحلة مي شكيب أرسلان جنبلاط قبل وفاتها بقليل: لم أعد أريد أن أسمع المزيد، هذا العالم العربي هو عالم من القتلة والمجرمين. والأرجح أنّ هذا ما يخشاه جنبلاط، ويراه ماثلاً أمامه على شكل فوضى من المحيط إلى الخليج.

السابق
تصريف مقيّد أم تعـويم ممنوع؟
التالي
بنك الودائع في سوريا