تجسس الجميع على الجميع

لم يَعُد الأمر كما هو عليه في رائعة جورج أورويل، “1984”، ولا كما رسخ طويلاً في أذهاننا، عندما سكنَ فيها “الأخ الكبير” هذا، واحد أحد، يتجسّس، يتآمر بالتالي علينا جميعاً، من دون أن نتمكّن من كشف حبائل تجسسه ولا من قطعها. لم تَعُد أميركا هي ذاك “الأخ الأكبر”، محتكر المعلومات التي تبثها آلاتها الجهنمية عبر الأثير، وعبر غيره من المعابر الى حيواتنا، الخاصة والعامة.

إنكسر هذا الاحتكار، وإنكشفت اميركا على أصدقائها وأعدائها. “الأخ الأكبر”، لم يعد محصناً في غرفه السرية السوداء، صار عاريا، تحت نظرنا. ومنذ لحظة إزاحة الحجاب السميك عنه، صارت أسراره باطلة، فانقلبت الآية، وانتشرت البراهين التي تثبت بأن الأخ الأكبر الاميركي، لم يعد وحيداً. صار له منافسون. هل الأمر مجرد صدفة تاريخية؟ ربما لا. فالسياق يقدّم نفسه بنفسه: أميركا منكفئة، تتراجع قدراتها على التحكم بكل تفصيل من تفاصيل هذا العالم، وتتراجع معها القدرة على التجسس بالسرية التي كانت تقتضيها زعامتها المطلقة. إنكشافها يتوازى مع ضعفها الإستراتيجي. ربما هذا قانون سياسي قديم؛ من يتذكر جواسيس الباب العالي وسلاطيننا وأباطرتنا، يأخذ مسألة التجسس هذه بصفتها ركناً من أركان الهيمنة على الآخرين. كلما عرفتَ عنهم، ولا يدركون إنك تعرف، فهذا يعني بأنك أقوى منهم.

ليست أميركا منكفئة على نفسها فحسب؛ إنما صارت ساحتها مسرحاً لإنشقاق مواطنين عنها، يرفضون نموذجها التجسسي، الذي يغطي “الداخل” و”الخارج” على حدّ سواء؛ إدوار سنودن طليعتهم. ليس صدفة ذاك الترابط بين التراجع الاميركي وبين تزايد الإنشقاقات في صفوف الإنتلجنسيا الأميركية الجديدة، ذات الإختصاصات التكنولوجية المتقدمة.

وعندما يترافق الأمران، أي الإنكفاء والإنشقاق، وينعكس مباشرة على القدرات التجسسية، أي القدرة على النيل من معرفة غير معروفة، فهذا تعبير عن ضعف صميمي ينْتاب أميركا، قد يستمر في طريقه الإنحداري سنوات أو عقود، من دون أن يعود إلى ما كان.
قد يقول قائل بأن هناك روسيا والصين، وقد نشأتا على الأجهزة السرية شديدة الإنضباط، الأكثر سرية من “الأخ الكبير”. يبدو هذا الأخير أمامها مثل طفل يحبو. بل أكثر، فلاديمير بوتين نفسه، أمضى نصف عمره عاملاً في الـ”كا جي بي”، النظير غير الديموقراطي للمخابرات الأميركية، صاحبة السمعة السيئة وحدها. ولكن الفرق بين الدولتين وأميركا ان تجسسهما على داخلهما وخارجهما لم يفضِ بعد الى تكريس هيمنة إحداهما الناعمة، الثقافية خصوصاً، على بقية بقاع الأرض.

السياق الثالث الذي أضعف القدرات التجسسية الأميركية، هو كون الفعل التجسسي لم يعد مقتصراً على مخابراتها وحدها، ولا على العالم الواقعي وحده. ففي العالم الإفتراضي، على الشبكة، كل شيء قابل للتجسس عليه، كل شيء قابل للرقابة. خذْ الفايسبوك مثلا: إدارته تزيد كل يوم معلومة إضافية مطلوب منك، أن تجيب عنه،”إختياريا”: كلها معلومات شخصية، خاصة، فيما إدارة الفايسبوك لا تخفي تدخلاتها ورقابتها وبيعها المعلومات التي جمعتها عنا… الخ.

إنها فوضى بكامل حلّتها: أن ينكشف “الأخ الاكبر”، قائد التجسس العالمي، من بين صفوفه، أن يرد عليه من استطاع، أن يكون له منافسون بالتجسس المضاد من بين أبناء قومه، ويعتبرها “خيانة” وطنية؛ ثم، أن تستنفر الدول الصاعدة والمتوسطة من أجل “امنها القومي”، فتقيم شبكات تجسس مضادة، أن تتجسس إدارات شبكات التواصل على “زبائنها”، ويتجسس هؤلاء على بعضهم البعض، أن تقاس فعالية التجسّس بـ”قوة” الدولة ومخابراتها، أن تتخصّص شركات خاصة بمراقبة معارضين للديكتاتوريين، القذافي مثلاً… وما إلى هنالك من دوائر تجسّسية لا تنتهي؛ إنها مرحلة حرب الجميع على الجميع، ومن بين ترجماتها، تجسّس الجميع على الجميع.

السابق
الفيروس التاجي يصل الى اسبانيا
التالي
زاسبكين لـ «الحياة»: نؤيد إجراءات لبنان وإعلان بعبدا يجب أن يُنفّذ على الجميع