«المؤتمر المسيحي»: لتحييد لبنان إلّا عن الممانعة

لم ينجح “المؤتمر المسيحي المشرقي” في تقديم أيّ جديد لا على مستوى المراجعة، ولا في الخروج برؤية موضوعية تخدم القضية اللبنانية التي شكّل المسيحيون رأس حربة الدفاع عنها، إنما الجديد الوحيد ربما يتمثّل بتشكيل إطار أوسع من “التيار الوطني الحر” يضمّ الشخصيات التي رفضت الانضواء تحت عباءة “التيار”، مفضّلة تأسيس لقاء جديد يكون “التيار” عموده الفقري.
وفي حين كان من مصلحة “التيار” بعد الخلافات مع “حزب الله” إعادة تموضعه التنظيمي والسياسي، خصوصاً بعد الإشارات التي أطلقها في هذا المجال، جاءت وثيقة المؤتمر لتستكمل ما بدأه العماد ميشال عون في وثيقة التفاهم، بل إنّ وثيقة 2006 أفضل من الوثيقة الأخيرة التي يغلب عليها الطابع الايديولوجي ربطاً بـ”حزب الله”، أو الطابع اليساري القديم الذي يعود إلى عشية الحرب الأهلية، إنما مع بعض الالتباس المقصود في النصوص والمقررات بغية ترك باب النقاش مفتوحاً شكلياً.
وإذا كان لا خلاف في التوصيف لجهة “اعتبار الحضور المسيحي في لبنان ضرورة لوجود المسيحيين في كل المشرق واعتبار الأمرين معاً شرطاً لسلام المنطقة والعالم”، إنما كل الخلاف يكمن في المسؤولية الثانية من ضمن المسؤوليات الأربعة الملقاة في الوثيقة على أربعة أطراف من زاوية مقاربتها لضرورة الوجود المسيحي، حيث يقول البند الثاني حرفياً بـ”مسؤولية إسرائيل بفعل قيامها وبردود الفعل عليه”، علماً أنّ الصراع في لبنان المتصِل بقبول الآخر والتعدد والتنوّع يسبق قيام دولة إسرائيل، ولكن بمعزل عن ذلك، إنّ إثارة القضية بهذا الشكل توحي وكأنّ الحل هو بإزالة إسرائيل، فيما مسؤولية الأخيرة تكمن في رفضها السلام العادل والشامل، وهنا بالذات تقع مسؤولية الغرب وتحديداً الولايات المتحدة بعدم ممارسة دورها عبر الضغط الفعلي على تل أبيب لحلّ النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، وأيّ كلام عن إزالة إسرائيل يعني خروجاً عن المجتمعين العربي والدولي والتزاماً بالأجندة الإيرانية.
وهذا البند المرتبط بالمسؤوليات ينسحب على البندين الثاني والثالث المرتبطين بالنقاط الخمس التي طالب بها المجتمعون، إن لجهة “تحييد لبنان عن الصراعات العربية والإسلامية مع التزامه قضيّة فلسطين والصراع العربي الاسرائيلي”، أو لناحية “سياسة دفاعية منسجمة مع ذلك”.
ومع ما تقدّم، تتوضّح كل الصورة وتصبح أي مطالبات أخرى لزوم ما لا يلزم، لأنّ بيت القصيد يكمن تحديداً في هذه البنود التي تُختصر عملياً ببند واحد، حيث يبدو أن المجتمعين تجنّبوا صياغتها وفق الطريقة الآتية: “إسرائيل وَرم سرطاني يقتضي اجتثاثه، وسلاح “حزب الله” يشكّل الضمانة للدفاع عن لبنان وإزالة إسرائيل، واللبنانيون لن يعرفوا راحة البال قبل إزالة هذا الجسم الغريب من الأمة العربية”.
فالصراع مع إسرائيل يختصر كل المسألة اللبنانية ومعاناة كل المسيحيين وتدهور أوضاعهم. فالمسيحيون كانوا من أصلب المدافعين عن القضية الفلسطينية وأشرسهم، ولكن في فلسطين لا لبنان، وفتح الجبهة اللبنانية هو الذي قاد الى تدمير لبنان.
وبالتالي، إنّ التمسّك بهذا العنوان بصياغة ملتبسة يعني إبقاء لبنان ساحة، وتأكيداً من المؤتمرين على تمحورهم إلى جانب محور الممانعة على رغم مطالبتهم الشكلية بالحياد. وبالتالي، مواصلة النهج نفسه يعني استمرار المعاناة نفسها تحت العنوان الأساس المتمثّل بتغييب الدولة التي تجسد المساحة المشتركة بين اللبنانيين.
فخراب لبنان بدأ مع فتح الجبهة اللبنانية-الإسرائيلية، ومن دون إقفالها أو تسليم مفاتيحها للدولة فقط يعني أن لبنان لن يستعيد عافيته واستقراره، كما أنّ مواصلة الحرب التي ينادي بها محور الممانعة يعني استمرار النزف المسيحي، لأن أبرز مقوّمات الوجود المسيحي السلام والاستقرار والحرية، هذه العناوين التي تتناقض جوهرياً مع مشروع “حزب الله” الهادف إلى إبقاء لبنان ساحة مواجهة.
وأما الأصوليات التي تتحدث عنها هذه الوثيقة فسببها مزدوج: رفض إسرائيل للسلام، ودور ايران في المنطقة، وبالتالي محاربة الأصوليات يبدأ بمعالجة أسبابها لا بتحويلها الى “فزّيعة” لإخافة الأقليات وتبرير مشروع الممانعة، ومعالجة هذه الأسباب تبدأ بوَقف التدخلات الإيرانية في الشؤون العربية وحلّ القضية الفلسطينية.
وإذا كان البعض يرى أنّ هناك حاجة لإدخال تعديلات دستورية أو تأليف لجان لمتابعة بيع العقارات ووضع المسيحيين داخل الإدارة وتجنيب الرئاسة الأولى الفراغ، فهذه الأمور وغيرها مهمة، إنما الأهم يبقى في عودة الدولة المغيّبة منذ اتفاق القاهرة، وأحد أبرز شروط عودتها تسليم “حزب الله” لسلاحه، وخلاف ذلك كل الكلام عن تعزيز وضع المسيحيين وتفعيله لن يتجاوز المسكّنات، لأنّ شرط استعادة المسيحيين لحضورهم ودورهم يكون في استعادة الدولة لحضورها ودورها.

السابق
الخاصرة السنية الرخوة لايران
التالي
مفتاح التفوق في اللغة العربية – للشهادة المتوسطة