قانون انتخاب تفادياً لمؤتمر تأسيسي

ما يزال الرهان على إقرار قانون انتخاب جديد كوسيلة أساسية لإعادة تكوين الشرعية والسلطة من دون توترات طائفية. يساهم القانون في إعطاء شرعية جدية للمجلس النيابي الذي تنبثق منه السلطة التنفيذية، كما يساهم في رسم خارطة سياسية جديدة للقوى إذا تم اعتماد النظام النسبي، بحيث تخرج البلاد من الاصطفاف الحاد الانقسامي بين كتلتين لكل منهما لون طائفي. الأمل في ذلك قائم على فرضية عدم رغبة الطرفين في الذهاب إلى صدام يدفع الأمور إلى حد المطالبة بتغييرات جذرية في النظام السياسي. ففي هذا التوقيت بالذات هناك مسار يشمل بلاد الشام والعراق تُعاد من خلاله صياغة الأنظمة.
الحديث عن «الشراكة» في لبنان يعيدنا إلى زمن سابق حين انفجرت الصيغة جراء إدارة الظهر لشعور جماعة طائفية كبيرة بالغبن أو بعدم ملاءمة فعاليتها في السلطة مع حجمها ودورها. طبعاً الإشكالية ليست بسيطة عندما تكون هذه الجماعة أو تلك في حال استقواء بغير الحضور السياسي كما كان يُقال سابقاً عن السلاح الفلسطيني كأداة ضغط للحصول على مكاسب سياسية. إلا أن التذرع بهذا السبب ليس كافياً لرفض الإقرار بالشراكة عندما تكون مشروعة. على أي حال لطالما صار واضحاً أن التوازنات الطائفية، مهما كانت، لا تنتج صيغة عادلة ولا استقراراً ولا تسمح ببناء دولة لجميع أبنائها. لكن مبدأ التسوية بحد ذاته هو البديل الوحيد عن مخاطر النزاع الأهلي العنيف. لذلك يبدو أن إعداد مشروع قانون انتخاب على أساس النسبية هو المدخل الأساسي لإنتاج حياة سياسية تعددية تتيح الاعتراف بقوى وتيارات ومصالح واتجاهات ليست من صلب التوازن الطائفي الانقسامي العريض. وأمام احتمالات تعزيز شرعية البرلمان يتقدم الحوار الوطني داخل مؤسسات الدولة بدلاً من أن يجري على هامشها أو في هيئات ينتجها الانقسام الطائفي وتبقى محكومة بحاجاته وحدها. فلا سبيل أصلاً لممارسة دستورية وخاصة في تأليف الحكومة وأعمال القواعد الديموقراطية ما لم نتجاوز هذه الثنائية الوطنية التي لا يمكن إنكار طابعها الطائفي اليوم. ولا يمكن بالتالي القفز فوقها بحجج دستورية وصولاً إلى نتائج تؤدي إلى إشعار فريق أساسي من اللبنانيين بالغبن وأحياناً استهدافه بالعزل.
ولسائل أن يسأل: هل نحن معنيون بحل أزمة النظام الطائفي أم نحن معنيون فقط بالحديث عن إفلاسه والحاجة إلى تجاوزه؟ لكن هذه التبشيرية تجاهلت في الماضي وتتجاهل اليوم أن هذه أزمة وطنية عميقة تشارف على تفكيك الكيان الوطني وليست مجرد أزمة سياسية خاضعة لاحتمالات السيطرة عليها تحت سقف الدولة والوطن. فلا أحد يصب الماء في طاحونة النظام الطائفي مثل أولئك التبسيطيين الذين يريدون دفعة واحدة أن يعيدوا تشكيل المجتمع بحسب آرائهم وقناعاتهم. كان ذلك أقل ضرراً في السابق منه اليوم، حين كان المحيط العربي يعيش حالاً من الاستقرار المكبوت ومن الركود السياسي الذي تختفي تحته أزمات بنيوية وعضوية منها ما تفجّر بشكل عاصف وهو المسألة الطائفية.
لذلك ومن دون الادّعاء بنصح الغير، فإن ما توفر في نظامنا الدستوري من آليات وضمانات، لم تطبّق بعد، يشكل نقطة انطلاق إن لم يكن ضفة الأمان النهائية. ولعل التقصير الذي مارسته النخب السياسية هو في تحويل الصيغة الدستورية الجديدة إلى مادة صراع حقيقي من أجل الفوز بتطبيقها. وما زلنا نسمع عن «موت الطائف» ونهاية مفاعيل «الجمهورية الثانية» قبل أن نضع المبادئ والقيم الدستورية التي كانت حتى في الجمهورية الأولى موضع التطبيق السليم.
ليست هذه دعوة لإغلاق النقاش حول الحاجات السياسية والإصلاحية، ولكنها دعوة مؤكدة في الوقت نفسه إلى ضرورة التفكير بما ينسجم أو يواكب أوضاعاً عربية تتدحرج في كل مكان تقريباً نحو أنظمة سياسية ليست تعددية وحسب بل سائرة إلى بلورة صيغ لدول اتحادية تفادياً لما هو أبعد: التفكّك والتقسيم.
فهل نعزز الشرعية في المؤسسات عندنا عبر قانون انتخاب على أساس النسبية أم ندفع الأمور إلى البحث عن شرعية تنبثق عن «مؤتمر تأسيسي» لن يكون في الظروف الراهنة إلا عقداً أعمق طائفية وأكثر تقسيماً وتخلفاً؟

السابق
سجينات لبنان مسلوبات الحقوق والكرامة
التالي
3 قتلى وجريح في اشكال في مستيتا جبيل