مهلاً أنت في «1984»

«1984» قصة كتبها جورج أورويل في الأربعينيات عن الرقابة. «الأخ الأكبر» هو من يراقبك، يعرف أين أنت وماذا تفعل. هو الآن يريد أن يعرف بماذا تفكّر وما هي نياتك. عليه أن يقرأ نياتك من تصرفاتك السابقة. ربما ظن أن علم النفس وعلم الاجتماع السلوكي الحديثين يتيحان له ذلك. لكن دماغ الإنسان فيه عشرات آلاف الكيلومترات من الخلايا، وهو أشد تعقيداً من أي كومبيوتر. ما زال في تعقيد دماغ الإنسان حماية للحريات والديموقراطية. هو يستعصي على كل رقابة. لكن القوى الحاكمة في هذا العالم، ذي القطب الواحد، تريد الدخول إلى الدماغ، ولو عن طريق الاستقراء.
يُقال إن المعرفة سلطة، وإن المعلومات تتراكم وتشكّل معرفة. يسيطرون بجمع المعلومات عنك، وصولاً إلى ماذا تفكّر. يجمعون المعلومات التي بُحْتَ بها علناً أو هاتفياً ويستقرئون منها ما لم تقله. يعتبرون أن ما تفكّر فيه حقيقة هو ما تضمره، وهو ما لا تقوله، أو أنك تقوله فقط لعائلتك وأقرب أصدقائك؛ وفي نظام أمني تخشى أن تقوله. باختصار يقتحمون حياتك الخاصة، بعد أن أزالوا الخط الفاصل بين العام والخاص. انتهكوا الحرمات؛ اختفت الحياة الخاصة. تتعرى ذاتك أمامهم. أنت لا تعود ذاتك. الذي يفضح حركاتك الخاصة وأفكارك يسيطر عليك. أنت تصير روبوت. آلة ميكانيكية، يسيّرها غيرك بإرادته.
لا لزوم للرقابة على الحليف إلا إذا أريدت السيطرة عليه. الذين يخضعون للرقابة يفقدون حريتهم. كنا نحسب أن هذا ما يرتكبه الطغاة عن طريق الأجهزة الأمنية وأجهزة الرقابة عندنا. وإذا بنا نضطر إلى التمييز بين وسائل القوة الناعمة عن طريق المراقبة ووسائل القوة الصلبة التي يستعملها طغاتنا عن طريق التعذيب والقسر. في بلادنا العلاقة بين الرقيب والمراقب حميمة، هي غرفة السجن أو التعذيب. في بلادهم العلاقة غير شخصية، هي من خلال جمع المعلومات وتحليلها وصولاً إلى اكتشاف ما كان لا يحصل اكتشافه إلا بالقوة الصلبة في العهود السابقة على المراقبة الإلكترونية.
في الحياة الديموقراطية هناك فصل بين مجالي الحياة الخاصة والحياة العامة. فضيحة التجسس على الناس العاديين عبّرت عن إزالة هذا الخلط وزوال الحدود. أصبحت الحياة الخاصة عامة، وفي متناول الجميع. إذا كانت الذات هي في الأساس الحياة الخاصة، فإنها قد ذابت في الحياة العامة. وسيطرت الرقابة على المجالين. الرقيب الذي يستلم كميات كبيرة من المعلومات من الناس، يوجه في الوقت نفسه، كميات كبيرة من المعلومات إلى الناس؛ وهو بذلك يشكّل لهم معرفتهم؛ يحوّلهم إلى روبوت. يلغي إرادتهم. الذات الملغاة ليس لها إرادة، تصير الانتخابات الديموقراطية لعبة بيد من يسيطر على: «الميديا» أي وسائل الإعلام، أي وسائل الاتصال من الناس إلى الرقيب، ومن الرقيب إلى الناس.
تشاء الصدف أن الزعيمة المراقبة، السيدة ميركل، رئيسة وزراء ألمانيا، هي في الأصل من ألمانيا الشرقية التي توحّدت مع الغربية. لها ذكريات قاسية مع «ستازي»، وكالة استخبارات ألمانيا الشرقية حيث كان الكل يتجسسون على الكل، والمعلومات أو التقارير يقدمها الزوج عن زوجته وأولاده، أو العكس.
في جلسة استماع أمام الكونغرس، قال الجنرال الأميركي، رئيس وكالة NSA، وهي وكالة سرية للغاية وأكبر بكثير من CIA، «إنهم يتجسسون علينا، ونحن نتجسس عليهم، وفي كثير من الأحيان هم يعطوننا المعلومات عن مواطنيهم». الجميع كانوا يعرفون أن السلطان عار من الثياب وكانوا ينكرون ذلك، إلى أن جاء طفل صغير قال إن السلطان عار وفضح ما كان مفضوحاً، بحسب قصة ذلك الكاتب الدانماركي العظيم للقصص القصيرة.
السؤال الآن هو: هل الفضيحة حدثت عفوياً، أم أن هناك فريقاً من النظام العالمي الإمبراطوري يستفيد من ذلك؟
مأساة الدول الديموقراطية هي أن الكثير من نشاطات المراقبة الإلكترونية والأعمال الديبلوماسية والأعمال العسكرية (بما فيها توزيع الموازنة العسكرية) تبقى سرية. حتى السلطة التنفيذية ورئاستها المنتخبة لا تعرفان الكثير عنها؛ وهي أعمال تقوم بها البيروقراطية بحسب ما تشاء، فهي تمسك برقاب رؤسائها. جزء كبير من السياسة تقرره ممارسات سرية لموظفين بيروقراطيين. تمسك البيروقراطية برقاب الرؤساء المنتخبين. بذلك لا تنتج السياسة عن الانتخابات الديموقراطية بل من دهاليز البيروقراطية. تختفي السياسة في هذه الدهاليز. ربما كان ذلك ما يُشار إليه «بالدولة العميقة» في كل بلد. لا تسيطر السياسة من خلال القادة المنتخبين، بل السيطرة في كثير من المجالات هي للبيروقراطية على هؤلاء الرؤساء وعلى السياسة. فهل يمكن إصلاح ذلك؟ أم يصدم الرئيس حين يخالف البيروقراطية وحين يُعتبر أنه خالف أوامرها فهي تتكشف، أو بالأحرى تفضح هذه الممارسات في عهده حتى يصير غير مرضي عليه؟
تختفي الديموقراطية والسياسة مع المراقبة والسرية، ولا يبقى من الديموقراطية إلا الشكل الفارغ من المضمون، الفارغ من السياسة.
تذكر قصة 1984. ليس لنا حماية إلا في تعقيد دماغ الانسان الذي نتمنى ألا يكتشف العلم الحديث أسراره البيولوجية والوظيفية.
السابق
ربط نزاع مع «حزب الله»: داخل الحكومة وخارجها
التالي
من يردع العدو؟