كيف تآمروا على الله؟!

التقرير في صحيفة “النهار” اليوم للزميلة هالة حمصي كان موجزاً للغاية لكنه بليغ للغاية أيضا: انفجار صراع شرس على كل السطوح بين الكنائس الأرثوذكسية في روسيا والقلسطنطينية واليونان والقدس، مايهدد بنسف المجمع المسكوني الأورثوذكسي الكبير المتوقع وبقطع “الشراكة” بين هذه الكنائس.
سبب الخلافات: صراع على نفوذ التبشير في الصين واليابان والقارة الأميركية، ورغبة الرئيس الروسي بوتين الواضحة في تحويل المسيحية الأورثوذكسية إلى أداة رئيسة من أدوات السياسة الخارجية الروسية الجديدة.
قبل هذا التقرير وبعده، كان المطارنة والآباء الموارنة في لبنان يدأبون على نشر بيانات شهرية تعج بكل المواقف السياسية الممكنة، ويختفي منها أي أثر لله أو الروحانيات أو أخلاقيات سلم المسيح. ويذكر كاتب هذه السطور أنه أمضى مع الزميلة جمانة نمور زهاء أربع ساعات في حوار تلفزيوني لم يبث مع بشارة الراعي حين كان مطراناً قبل أن يصبح بطريركاً، قلنا له في نهايته:” هل انتبهت إلى شيء يا مولانا؟ طيلة هذه الساعات الأربع كنا نحن نسأل عن فلسفة الوجود والحياة والمعنى الروحاني للدين، وكنت أنت لاتتحدث إلا عن السياسة”.
وقل الأمر نفسه عن معظم الباباوات الذين تعاقبوا على الفاتيكان كورثة للرسول بطرس الذي قيل أنه الصخرة التي أراد يسوع بناء كنيسته (الروحية) عليها، فلم يفعلوا شيئاً سوى قيادة الحروب بأنفسهم والدعوة إلى “قتل الأعداء بمحبة”.
لماذا هذا الحديث الأن عن تسييس المسيحية، فيما العالم بأسره يرتعد خوفاً من تسييس الأسلام وتحويله على يد الجهاديين إلى عبوة ناسفة ضخمة تزنر نصف كوكب الأرض؟
لتقرير حقيقة مشتركة غالباً ما يتم تناسيها: كل الأديان المعاصرة، بما فيها التوحيدية والبوذية والتاوية والهندوكية، تحوّلت من ومضات أخلاقية وروحية تبغي، كما أراد رسلها وفلاسفتها،  الارتقاء بالوعي البشري من صراع البقاء إلى صراع النقاء، إلى إديولوجيات مغلقة تبني هويات قاتلة ونفوس مريضة وتعصب أعمى.
الهدف التاريخي الأول المعلن للأديان كان تعريف الإنسان على الله الذي يُفترض أنه خلقه على صورته، لكن قيمها ومعانيها وأبعادها تدهورت بعد رحيل مؤسسيها إلى درجة أنها قلبت الصورة رأساً على عقب فجعلت الله على صورة الإنسان، وباتت المشيئة الإلهية في خدمة أمة بعنيها (كما لدى اليهود) أو طوائف بعينها وحدها الناجية من النار (كما لدى الطوائف المسيحية والإسلامية) أو رهباناً متعصبين ضد “الآخر” (كما لدى البوذيين) أو حتى شخص واحد بعينه (حيث يريد أن يوظف الله في كل مصالحه).
الإديولوجيا المنغلقة والقاتلة أصبحت هي الحاكم سعيداً لدى كل التيارات الدينية، حتى تلك التي تدعو إلى الحوار والتسامح. لماذا؟ لأن لاهوتها سار تاريخياً على الطريق الخطأ: بدلاً من العمل على جعل وحدة الله والوجود مدخلاً لوحدة البشر وتضامنهم وتآخيهم، حوّلت الآخر إلى كافر، أو مرتد، أو إحالت أوراقه (في حال ساد التسامح) إلى الله في الأخرة علماً أنه سيكون حتماً في جهنم إذا لم يتعمد (عند المسيحيين)،  أو ينطق بالشهادتين (عند المسلمين) ، أو يقر بوضع الله في خدمة الشعب المختار (كما عند اليهود).
لكن، لماذا انقلبت الأديان من حركات روحية- أخلاقية إلى تيارات إديولوجية مقفلة ومدمرة، على رغم ادعائها بأنها تدعو إلى إله واحد مُحب للجميع وراعٍ للجميع؟
احتكار معرفة الحقيقة المطلقة الوحيدة سبب. تشويه التعاليم الرئيسة بعد رحيل “المعلِّم” وفق المصالح والأهواء، سبب ثان. لكن يبقى أن السبب الرئيس هو أن الجنس البشري في مغامرته الوجودية الكبرى لم يستطع بعد بناء وعي جديد متعدد الأوجه يتجاوز فيه مرحلة صراع البقاء أو البقاء للأصلح والأقوى الدارويني المستند إلى الأنا الأنانية ( Ego) إلى مرحلة المصالحة الكبرى مع الذات والآخر والبيئة والطبيعة ووحدة الوجود.
الإنسان كان ولايزال في حالة حرب مع نفسه، حتى وهو في ذورة اندفاعه لخدمة هذه الذات عبر السيطرة والهيمنة ومراكمة السلطة والثروة. لكنه سرعان مايكتشف بعد حين أن الثروة لاتتضمن الخلود، وأن السلطة والشراهة لا تضمنان السعادة بل تؤديان على العكس إلى أمراض نفسية عضال، كما عرف هتلر وستالين وبول بوت والقذافي وشارون، وكما يعرف الآن بشار الأسد.
لو أن تاريخ البشرية يمكن أن يتجسد في تاريخ إنسان واحد، لكان التشخيص كالتالي: أوهام ارتيابية حادة (تتكرس في الإديولوجيات والهويات القاتلة)، ومنحى قوي لارتكاب الجرائم والعنف والقسوة المتطرفين ضد من يعتبرون “الأعداء” الذين هم ليسوا شيئاً آخر سوى عقل الإنسان الباطن وقد تجسد في الخارج”.
أنها حقاً جهنم إنسانية على الأرض. لكن كيف الخروج منها؟
 (غداً نتابع)
السابق
عن حزب صار في الـ90 ومصّاصة الطفولة في فمه
التالي
ايفا غزال: وساطات على دم شرفها