أميركا-الشرق الأوسط: لااستراتيجية رايس

اميركا واستراتيجية الشرق الأوسط

آخر ما يمكن أن يوصف به تقرير سوزان رايس، مستشارة الأمن القومي الأميركي، وفريقها حول “إعادة النظر في السياسة الأميركية في الشرق الأوسط”، بأنه استراتيجية أميركية جديدة.
فكل ما جاء في التقرير، الذي نشرت نيويورك تايمز محاوره الرئيس، كان أساساً غطاء تنظيرياً لممارسة عملية كانت أوباما تنفذها منذ أشهر عدة، وتستند إلى منطلق يتيم: “النأي بالنفس” عن معظم قضايا الشرق الأوسط، وتقليص الالتزامات الأميركية في المنطقة، وتحويل التركيز الأميركي من حوض البحر المتوسط إلى حوض المحيط الهاديء.
إنه (التقرير)، بكلمات أخرى، “استراتيجية لاإستراتيجية” وإضفاء الطابع الرسمي على الانكفاء أو الانحسار (Retrenchement) الأميركي في الشرق الأوسط، بهدف تحويله إلى كتاب مفتوح برسم جميع القوى الإقليمية والدولية التي كانت تتساءل عما إذا كانت سياسة الانكفاء هذه أوبامية خاصة أم أميركية عامة.
وعلى أي حال، رايس نفسها لم تحاول إخفاء أو تمويه هذه الحقيقة، ولا أوباما نفسه في خطابه الشهر الماضي أمام الأمم المتحدة. فهما شددا على أن الأولويات الأميركية الجديدة هي التوصل إلى تسوية دبلوماسية للملف النووي الإيراني، وحل المسألة الفلسطينية – الإسرائيلية، ورفض استخدام القوة العسكرية إلا لمنع عرقلة تدفق النفط، ومكافحة الإرهاب، وانتشار أسلحة الدمار الشامل.
أما قضايا الحرية، التي تبناها أوباما قبل سنتين في اسطنبول والقاهرة معلناً في أيار/مايو 2011 بأن أميركا “ستدعم الديمقراطية وحقوق الإنسان والأسواق الحرة بكل امكانتها الدبلوماسية والاقتصادية والاستراتيجية”، فقد حلت مكانها الآن النزعة الواقعية والبراغماتية و”رفض أن يبتلع الشرق الأوسط كل أجندة السياسة الخارجية الأميركية”، على حد تعبير رايس التي أضافت: “هناك الآن عالم كامل (في آسيا)، ونحن لدينا مصالح وفرص في ذلك العالم الكامل”.
بعض المحللين شبّه هذه النقلة من الشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى (وبينهما الداخل الأميركي الذي يريد أوباما “إعادة بناء الأمة الأميركية” فيه)، بتلك التي قام بها الرئيس نيكسون في الستينيات، حين أغلق ملف الحروب الأميركية في الهند الصينية ويمم وجهه نحو الصين ليبرم معها “صفقة العصر” آنذاك.
وبالمثل، يضيف هؤلاء، يقوم أوباما الآن باستكمال إغلاق ملف الحروب في الشرق الأوسط، ويتجه نحو إيران وروسية لإبرام “صفقة كبرى” مماثلة لصفقة الصين.
بيد أن هذا التشبيه، وعلى رغم أنه صحيح في ما يتعلق بالنقلات، إلا أنه قد لا يكون دقيقاً قي ما يتعلق بالمحصلات.
لماذا؟
لسببين رئيسين:
الأول أنه في الهند الصينية، كان في وسع الولايات المتحدة أن تحمل عصاها على كتفها وترحل، لأنه بعد سقوط سايغون لم يعد لها أي حليف في تلك المنطقة. أما في الشرق الأوسط، فحلفاء أميركا، من تركيا وإسرائيل إلى مصر والسعودية والأردن والمغرب، يمثلون قدراً كبيراً من المصالح والأمن القومي الأميركي. وبالتالي، إذا ما حاولت واشنطن إبرام صفقات منفردة مع إيران وروسيا والصين، فهؤلاء الحلفاء قادرون على زعزعة الإدارة في الداخل الأميركي نفسه كما في الساحة الدولية.
والثاني، أن طبيعة التغيرات الكبرى في دول المنطقة، من صعود الإسلام الجهادي وبروز قوة “الشارع السياسي” العربي و”تمرد” حلفاء أميركا عليها، إلى دخول الدول الكبرى كروسيا والصين والهند إلى العرين الشرق أوسطي بكل مايمتلكه من موارد الطاقة والمواقع الجيو- استراتيجية و”صدام الحضارات”، سيجعل من أي “تقهقر عشوائي أميركي في الشرق الأوسط نذيراً بتقهقر زعامتها في كل أنحاء العالم، بما في ذلك شرق آسيا نفسها.
بالطبع، تستطيع إدارة أوباما أن تتجنب كل هذه الألغام، إذا مانجحت في جعل تقوقعها مدخلاً إلى إقامة نظام أمني إقليمي جديد في الشرق الأوسط على غرار النظام الإقليمي الأوروبي. لكن هل هذا ممكن أو وارد؟
ربما. لكن هذا يتطلب تركيزاً أميركياً ضخماً وكلياً على إيجاد حلول شاملة لأزمات المنطقة. وهنا تكمن المفارقة الكبرى: لكي ينجح الانحسار يجب أن تنغمس إدارة أوباما في الشرق الاوسط أكثر. وهذا مالايبدو أنها فهمته حتى الآن. وحتى لو فهمت، فلن يسعفها لا الوقت (سنتان ونصف السنة على ماتبقى من ولاية أوباما) ولا الحلفاء المرعوبون من تقلباتها، ولا المفاجآت الكبرى في المنطقة، من تحقيق رغباتها التقوقعية.

السابق
بري: من يعطلون يدفعون باتجاه الانحدار والمطلوب قانون جديد للانتخاب
التالي
الفرزلي: الحياة السياسية لن تستقيم دون إنتاج قانون انتخاب