الصندوق المحطم

ساعي البريد يدق في العادة مرتين، اما اذا دق 17 مرة، فانه لا يكون ساعيا، او لا يكون سكان البيت في الداخل، او على قيد الحياة. وهو ما لا ينطبق باي حال من الاحوال على طرابلس التي انحدرت من كونها عاصمة ثانية الى مدينة او الى حي او شارع ..الى صندوق، مع ان البريد اللبناني لم يعد يستخدم من قبل احد، ولم يعد يفيد احدا، لا في لبنان ولا في خارجه.

نظرية البريد وتبادل الرسائل على جبهات القتال ترجع الى الحرب الاهلية، عندما كانت هناك قوى عربية واجنبية (اسرائيلية خاصة) تتصارع على لبنان وتتنافس على اللبنانيين، الذين كانوا، وما زال معظمهم على الارجح ادوات صغيرة في حروب اقليمية- دولية كبرى، كان من اهدافها الرئيسية تسوية الصراع العربي الاسرائيلي، وتحديد هوية المشرق العربي. كان لبنان في تلك الحقبة مقياسا مهما لموازين القوى التي تتردد اصداؤها احيانا في البيت الابيض وفي الكرملين. لكنه اليوم صار اشبه بقرية نائية، يخوض ابناؤها نزاعات محلية جدا لا تتعدى حدود القضاء، ويفتعلون لها ادوارا ووظائف ليس لها أثر حتى في معركة مدينة حمص السورية القريبة.

لا يريد احد من اللبنانيين والشماليين خاصة والطرابلسيين تحديدا ان يتواضع، وان يعترف ان الحرب السورية التي استعصت على المجتمع الدولي برمته، هي اكبر من قدرة لبنان على الاستيعاب واكبر من طاقته على الاحتمال..وهي يمكن ان تمتص جميع القوى اللبنانية الرسمية والسياسية بسرعة شديدة، من دون ان يكون لهذه القوى مجتمعة او منفردة اي تأثير في مسار تلك الحرب. فالجيش اللبناني الذي تظهر عليه علامات التعب من مجرد السعي الحثيث لكبح محاولات استدعاء المواجهة السورية، ليس سوى مؤشر بسيط على ما يمكن ان يخسره لبنان من أمنه واستقراره. وحزب الله الذي ارسل قواته الى سوريا لن يعود منها الا مهزوما، هذا اذا عاد فعلا. وكذا الامر بالنسبة الى بقية التنظيمات الاسلامية التي ترسل مقاتلين متفرقين فر كثيرون منهم من ارض المعركة او دفنوا هناك.

ما زال اللبنانيون من دون استثناء يعتبرون ان الكلام عن ان اشتباكاتهم الداخلية المستمرة منذ ما قبل الازمة السورية ولن تتوقف بعدها، هي بمثابة اشتباكات قروية لا تقدم ولا تؤخر في مجرى اي صراع خارجي ، يعادل الاهانة. وما زال الشماليون منهم يرفضون التشكيك في فرضية ان منطقتهم وحدودهم المشتركة مع سوريا هي جبهة قتال مفتوحة على الصراع السوري، تدعم النظام من جهة وتؤازر المعارضة من جهة اخرى.. وهو ما لا يجروء على ادعائه احد في اي من البلدان الاخرى المتاخمة لسوريا، لا في الاردن ولا في العراق ولا حتى في تركيا.

وما زال الطرابلسيون في غالبهم مؤمنين فعلا ان جولات معارك باب التبانة وجبل محسن التي بلغ عددها 17 حتى اليوم، ليست مجرد قراءة متسرعة وساذجة لوقائع الحرب السورية وتحولاتها بل هي اسهام لبناني مباشر وحاسم ايضا في تلك الحرب، هدفها ان يتيح للمقاتلين على احد طرفي الجبهة ان يدخلوا – بعد الحسم – الى دمشق دخول الفاتحين، والمشاركة في مكاسب السلطة ومغانمها.. قبل الانتقال في مرحلة لاحقة الى بيروت لقطف ثمار ذلك النصر، وتوظيفه في حسم الصراع الابدي على الحكم في لبنان.

لا احد في طرابلس او في الشمال او حتى في لبنان كله يود ان يقتنع بان الجولات ال17، هي مجرد معارك زعران محليين، تستمد ديناميتها من تجارب محلية سابقة، وهي لن تغير شيئا في سوريا، ولن تبدل في وجه المدينة التي ظلمت اكثر من مرة في الماضي، لكنه لم يسبق ان كانت صندوق بريد، لسعاة يحطمونه بلا هوادة مرات ومرات

السابق
ساندويتش لتأجيل الجوع
التالي
باسم يوسف.. التيار الثالث