ساحة الله.. من دونه

ساحة الله في طرابلس

لم تعد طرابلس كما كانت. ناسها، شوارعها، أسواقها، معالمها، كُل شيء تغيّر.

جولة بعد جولة، معركة وراء معركة، تدخل أشباح وتخرج أخرى، ناس يتعلقون بالأمل، أمل الدولة، وناس يتعلّقون بالطائفة والمذهب. آخرون يعيشون مع الواقع ليصبحوا جزءا منه. أمّا السياسيون فهم في مكان آخر، خارج المدينة بغليانها ويأسها وإحباطها وحتى عنفها. كلهم يعلمون ويشاهدون ما يحصل، وليس من بينهم من يوقف دوّامة لن تُبقي من المدينة سوى ذكرى مدينة.

هنا ساحة الله أو النور. حياة غير طبيعية، محال مُقفلة، أخرى لا. يشتد صوت الرصاص، يبدأ المسلحون بالتجوال في الأرجاء. يهرع من كان يقاوم إقفال باب رزقه، إلى منزله وعائلته. يشتد القصف، وتتطاير القذائف من التبانة إلى جبل محسن وبالعكس، وبعضها يخرج عن حزام النار إلى أماكن مجاورة. تذهب السيارات، يختفي المواطنون، لا يبقى في الميدان إلّا أبناء المحاور.. وهم يتكاثرون. كل جولة وجه جديد يترك ما تبقى لديه من أمل أو ما فيه من اعتدال، على جانبي المحور، ويغادر إلى لعبة الموت.

ينتهي ليل الإشتباكات الطويل. راحة الصباح تقطعها رشقات من هنا وهناك، طلقات القنص لا تُميّز بين مدني ومسلّح . وجوه أبناء المدينة بين غاضبة وخائفة. هناك، على زاوية جنب الساحة (التي هُجّر منها الله على ما توحي به) من يفرد وجنتيه ضاحكاً وكأن لا شيء يحصل. هو ليس مقاتلاً، ولا يعنيه ما يجري، تقريباً، لماذا الفرح؟ يقول إنه واقعي ويعرف أن لا أحد مُهتمّا بما يمكن أن يكون في المدينة، فحمى نفسه على طريقته: عادة المواطن يريد دولة تحميه، الدولة لن تفعل، فلم يبق أمامي سوى “الشباب”. من هم هؤلاء؟ أبناء المحاور. الرجل الأربعيني كغيره ممن عرف كيف تؤكل الكتف زمن الميليشيات. لا أحد يقترب منه، ومن “مصلحته”.

ليس كل أبناء المدينة يستطيعون أن يرشوا المسلحين أو أن ينسجوا معهم علاقات جيّدة، كتلك التي كانت أيّام الوصاية السورية، حين كان المحظي من بينهم، من يجد إلى مكتب “مفلح” سبيلا. البعض، لم يعد يُبالي بأيّام غابرة، كان فيها السنيّ مع العلويّ، في حي واحد، شارع واحد، بناية واحدة. هناك في “زاروب” ضيّق، محل “لصديقنا من الطائفة العلويّة، عسى ألّا يحرقوه كما فعلوا مع غيره”. المحل صامد، لكن بعض الإعتدال الذي كان، تخلّى عن الصمود، ولا يعنيه التصدي للحقد الزاحف من كل صوب.

كل هذا لا يختصر وجه المدينة. هناك، كُثر يريدون الحياة، أقلّه كما كانت، حتى لو لم يدخل الإنماء إلى أحيائهم. معادلة غريبة، لكن لا غرابة حين يُصبح الحلّ ما بين إثنين: الفقر أو الموت. إرادة الحياة، مهما كانت هذه الأخير وكيفما كانت، تبقى أفضل من الموت. هناك، في المدينة، من يحلم ويتمسّك بحلمه، لا يريد مغادرته، رغم أنه يغادر بيته حين تغيب الشمس، ويفتح الليل ذراعه أمام القتل المتبادل. على خط التماس، من لا يأبه بشيء سوى بعائلته الصغيرة، المتمسكة حتى الرمق الأخير بالبقاء. وهناك، على خط الموت أيضاً، من يبحث عن رحيل، له ولعائلته. قدرة الإحتمال آن لها أن تنضب.

التطرف، التزلّف، الإنكار. هذه هي طرابلس اليوم، بعيداً عن ولد الجبل وأولاد المحاور. إرادة الحياة لا تعني البقاء، هناك، تدخل الفيحاء إلى نفقها وحيدة، ولا من يوقف أو يحد من سرعة عبورها إلى الجانب المظلم. تمرّ دورية للجيش أمّام صورة عملاقة للّواء أشرف ريفي تدلّت على مبنى تأكله شظايا الحرب الأهلية في ساحة الله. وحدها الصورة واقفة، في منطقة لم يعد من فيها يستطيعون الوقوف.

أوّل الليل، حين يأتي أوّل الليل، مجموعة من الشبان تعبر إلى الميناء، لتمارس طقوس الفرح في بلاد ينهشها ملوك الموت.

السابق
هدوء حذر في طرابلس
التالي
الإبراهيمي وإيران.. والميليشيات الشيعية!