عن يوميات الجحيم في طرابلس

طرابلس

في جولة ميدانية قمت بها في أحياء طرابلس الداخلية، باب التبانة ضمناً، أخذت بعض الصور لمبانٍ مثقوبة من زخّ الرصاص بسبب المعارك المتقطعة في المدينة. كانت الشوارع فارغة رغم أنّ المعارك غابت يومها عن شعب بات محكوماً بالظلام والخوف. محلات مقفلة في معظم الأحيان وتلاميذ مسجونون خارج مدارسهم وقادة محاور بسطوا هيمنتهم على قليلي الحيلة.

المباني المثقوبة ذكّرتني بمبنى مجاور لمنزلنا القديم في “القبّة” قرب الجامعة اللبنانية والذي سكنّاه حنى نهاية التسعينات. كنت طفلة لم أتجاوز السادسة من العمر ولكني كنت أتخيّل دائماً أنّ أشباحاً تسكن في ذلك المبنى المتضرر من الحرب الأهلية وتحديداً شبح رجل عجوز أكاد أصدّق أنّه كان موجوداً لكثرة ما رسمته في ذهني. أطفال طرابلس اليوم يكبرون مثلي، ولكن على درجة أقسى وأروع من السوء. أنا وهم نتشارك الذاكرة المثقوبة.

اليوم المدينة محاصرة وأنا بعيدة عنها ومحظوظة لأنّ ابنتي لا تعيش في ظل الموت داخل مدينتي الأصلية. لكن في قلبي حسرة ونقمة شديدة على كل مسؤول في المدينة. لنتحدّث قليلاً عن يوميات الجحيم فيي طرابلس، عن رجال ونساء وأطفال يحاصرون في ملاجئ غير آهلة للكسن في محاولة للاحتيال على الموت المجاني، عن عمّال لا يستطيعون الوصول إلى أماكن عملهم ليؤمنوا لقمة العيش لعائلاتهم، عن أيدي فارغة من الرصاص وأجساد تعيش تحت رحمة القنّاص.

لنتحدّث عن امرأة في جبل محسن صارت تشعر بالذعر من أن تنزل إلى وسط المدينة حيث يعيش أصدقاؤها وحيث مركز عملها فقط لأنّها علويّة وعن أخرى سنيّة ولكنّها تعارض ما يحدث من اقتتال. حتّى هذا الحق بالمعارضة، أهالي طرابلس محرومون منه وباتوا محكومين بأن يصنّفوا بحسب خانة المذهب على هويّاتهم.

لنتحدّث عن بائع الخرنوب الذي ما عاد يتجرّأ أن يجرّ عربته لأنّ التجارة الرابحة الوحيدة في طرابلس باتت تجارة الدم وعن ميكانيكي مجبر أن يقفل ورشته وعن أفران ما عادت تنتج خبزاً. لنتحدّث عن أطفال يحملون البنادق ويتحدّثون بلغة الكراهية وعن زعماء لم يتحرّكوا بجدية ليضعوا حدا لما يحصل وعن رئيس جمهورية لم يزر المدينة التي تشتعل حتّى الآن.

لنتحدّث بغضب علّنا نصل يوماً أن نعترض على هذه المأساة. لنتحدّث لأنّنا نرتكب نحن اللبنانيون، سواءً كنّا مواطنين أو مسؤولين، يوميّاً إثماً عميقاً بحق أطفال طرابلس. نتركهم وحدهم لمشاهد الرعب والقذائف والحصار والموت ونغفو في أسرّتنا بسلام.

السابق
الزواج الإيراني ينصف المرأة.. فلماذا ترفضه محاكم لبنان؟
التالي
تدخين النرجيلة يضر.. ولكن بهدوء