إلى أين يمكن أن يصل التدهور في العلاقات السعودية – الاميركية؟

– I –
العلاقات السعودية- الاميركية في حالة انحدار. هذا أمر واضح. لكن، إلى أين يمكن أن يصل التدهور في العلاقات؟

يجب القول، أولاً، أن هذه قد تكون المرة الأولى في تاريخها التي تشهر فيه المملكة السعودية سيف التحدي على هذا النحو في وجه أميركا. صحيح أنها فرضت حظراً نفطياً على الغرب خلال حرب أوكتوبر 1973، إلا أن ذلك لم يكن تحدياً بقدر ما كان “شكوى” من الانحياز الاميركي المطلق إلى إسرائيل.
أما الآن فالتحدي يأخذ شكلاً مغايرا، يمتزج فيه الغضب بالخوف، والشك بالقلق، من مخططات الولايات المتحدة وتوجهاتها. وهذا ما أفرز حصيلة غير متوقعة على الإطلاق: تحوُّل المملكة العربية السعودية بين ليلة وضحاها من قوة أمر واقع تمارس أقصى درجات الحذر الدبلوماسي الأسطوري، إلى دولة “ثورية” ترفض عضوية مجلس الأمن (كما كان يفعل العقيد الراحل معمر القذافي)، وتحمل علناً بعنف على الحليف الأميركي، وتهدد (على لسان الأمير بندر بن سلطان) بإعادة النظر في مجمل العلاقات السعودية- الأميركية برمتها.
لماذا تتصرف الرياض على هذا النحو العنيف، إلى درجة دفعت صحيفة فايننشال تايمز الرزينة إلى تحذيرها من أنها باتت قاب قوسين أو أدنى من التحوّل إلى “دولة مارقة” ( Rogu state)؟
– II –
السبب أسباب عدة في الواقع، لكنها كلها تتمحور حول محفز واحد: القلق، كما قلنا، الذي يقترب من درجة الرعب من التحولات السريعة والعميقة في السياسة الأميركية في الشرق الأوسط.
التراجع الأميركي عن ضرب سورية ومد عمر ولاية الرئيس الأسد، كان أحد هذه الأسباب. البحرين وعدم الدعم الأميركي المطلق للتدخل العسكري السعودي والخليجي فيها كان سبباً ثانيا. ثم جاء “الانفتاح” الاميركي الكبير والحماسي على الرئيس روحاني ليشكّل سببا ثالثاً غاية في الإقلاق.
بيد أن العامل الأهم وراء “الزعل” السعودي العنيف، كان تحفظ واشنطن على الانقلاب العسكري ضد حكم الإخوان في مصر، وقبلها على إطاحة الرئيس مبارك.
لماذا؟
لأن هذا التطور، وأكثر من أي عامل آخر، يثير مخاوف الأسرة الحاكمة السعودية من وجود مخططات أميركية لأحداث تغيير في النظام الإسلامي السعودي على يد قوة إسلام سياسي أخرى: الإخوان المسلمون.
الملكيون السعوديون يمكن أن يغضبوا بسبب السياسات الأميركية في سورية والبحرين المناقضة لمصالحم، وأن يقلقوا من الحوار الأميركي- الإيراني، خاصة السّري منه. لكن مسألة استمرار التحالف الأميركي- الإخواني، هو بالنسبة إليهم بمثابة صندوق باندورا الذي تنطلق منه كل أنواع الشرور. إنه، بكلمات أخرى، الخطر الوجودي الأول على النظام، وكذلك على التحالف التاريخي بين أميركا والإسلام الوهابي الذي أرسته قمة الملك عبد العزيز والرئيس روزفلت في شباط فبراير/شباط 1945 على متن المدمرة الاميركية كوينسي.
نتذكر هنا أن جماعة الإخوان المسلمين منذ أن أسسّها حسن البنا العام 1928، كانت منظمة سياسية من ألفها إلى الياء. منظمة تعتبر أن الإديولوجيا الإسلامية بمثابة علاج سياسي للأمراض التي فتكت بالعالم الإسلامي طيلة القرون الماضية. وهي في خضم تبينها لهذا المبدأ، عمدت إلى دمج الفكر الغربي السياسي الحديث بالتقاليد الإسلامية، كما رضعت من ثقافة جيلين من الفكر السياسي الإسلامي في الحقبة الأخيرة من عهد الدولة العثمانية، ولم تر بالتالي تناقضاّ بين الحكم الإسلامي وبين المباديء الجمهورية والبرلمانية (ولاحقاً الديمقراطية والتعددية ولو على مستوى قيادات الجماعة).
في المقابل، كانت الطبعة السعودية من الإسلام تقوم على الفكر السلفي اللاسياسي، الذي يُعطي قيصر السعودي السلطة السياسية، ويخوِّل آل الشيخ وأتباعهم التصرُّف بما لله: السلطة الدينية وأحوال الآخرة، شريطة ألا يتدخلوا بشؤون الدنيا.
هذا الشرخ الإديولوجي- السياسي بين الطرفين ظل نائماً عقوداً طويلة بفعل عاملين إثنين:
الأول، زواج المصلحة الذي أبرمه الإخوان والسعوديون غداة بروز حركة القومية العربية العلمانية واليسارية منذ مطلع الخمسينيات بقيادة جمال عبد الناصر، والذي دفعهم إلى شن حرب مشتركة ضدها وهم يرفعون رايات الإسلام السياسي. وهكذا، وجد قادة الإخوان المصريين ملاذاً آمناً وخزينة مالية وفيرة لهم في المملكة، فيما اكتشفت فيهم هذه الأخيرة كنزاً أحسنت استخدامه في حربها العامة ضد القومية العربية العلمانية.
والثاني، نجاح الرياض في احتواء الإخوان المسلمين غداة هزيمة حرب 1967، من خلال تحالفها مع الأنظمة الجديدة التي برزت في مصر (حسني مبارك) وسوريا (حافظ الأسد) وتونس (زين العابدين بن علي) والأردن (الملك حسين) والتي جهدت لإبقاء حركات الإخوان داخل القفص.
الأخوان المسلمون لم يردّوا مباشرة حين انتقلت علاقتهم مع السعودية من التحالف إلى الاحتواء. لكن بعض أجنحتم كانت تفعل ماهي أكثر بكثير من الرد: اختراق السلفية الوهابية نفسها.
حدث هذا أساساً في أفغانستان، حين قام القائد الإخواني البارز عبد الله عزام وبعده أيمن الظواهري بجذب المقاتلين السلفيين السعوديين، وعلى رأسهم أسامة بن لادن، إلى إديولوجيا سيد قطب الجهادية، الأمر الذي خلق أزمة شرعية كبرى في المملكة طيلة حقبة التسعينيات أنحى فيها السعوديون باللائمة على “القطبيين والإخوانيين” كما أسموهم.
والآن، وبعد أن بات واضحاً أن الربيع العربي كانت له قسمات إخوانية فاقعة في مصر وتونس والمغرب وسورية (والعد مستمر)، كان على القادة السعوديين مواجهة المقلب الآخر من التحدي الإخواني: الطبعة الليبرالية والديمقراطية المُفترضة من الإسلام.
وهذا مايفعلونه بقوة الآن، عبر دعم الانقلاب المصري على الأخوان بكل أنواع الأسلحة.

– III –

إلى أين يمكن أن تصل “الانتفاضة” السعودية ضد واشنطن؟
ليس بعيدا. المملكة قد تعمل الآن على تنويع علاقاتها الخارجية، وحتى على إبرام بعض صفقات الأسلحة مع روسيا والصين وأوروبا، لكنها لن تكون قادرة على التخلي عن مظلة الحماية الأمنية والاستراتيجية الأميركية، لا الآن ولا بعد عقد أو عقدين.
هذا لايعني أن علاقات أميركا وحلفائها الشرق أوسطيين لن تشهد تغيرات وتبدلات، خاصة مع تغيّر وتبدل الأولويات القومية الأميركية، من الشرق الأوسط إلى الشرق الآسيوي، ومن الخارج العالمي إلى الداخل الأميركي. لكنها تغيرات لن تؤدي إلى انقلاب في التحالفات، طالما لم تبرز على الساحة الدولة قوى عظمى جديدة مستعدة للجلوس مكان القوة العظمى الأميركية على عرض الزعامة العالمية.
والسعودية، التي تعرف ذلك جيداً، ستواصل رفع الصوت احتجاجاً على السياسات الأميركية الجديدة، لكنها ستفعل ذلك من داخل كبينات سفينة القيادة الاميركية وليس من خارجها.

سعد محيو

السابق
فرعية الادارة باشرت درس اقتراح قانون حماية كاشفي الفساد
التالي
قاسم: قوى 14 آذار رفعت شعارا يؤدي إلى تعطيل البلد