هلال الشيعية السياسية

نكتب عن الموضوع ذاته بعد شهرين ونيف . في المرة الماضية ، في عيد الفطر ، كتبنا عن فقهاء التجهيل ، الذين يتنطحون لقضايا ليست من اختصاصهم ، ويحولون علم الفلك إلى مادة للسخرية ، فيقرر كل على هواه متى يولد الهلال ومعه يولد شهر ويموت آخر . هذه المرة نكتب عن حكومات تحول هيبة الدولة إلى مادة للسخرية .
جرت العادة من أول سني مراهقتنا ، منذ كان الصوم والحج ، وكانت السنة والشيعة في وطننا ، أن تكون بداية شهر الصوم الشيعي بعد يومين أو أدنى من بداية الصوم السني ، وأن يجلس الشيعي على مائدة الافطار بعد مرور عشر دقائق أو أكثر على الأذان السني ، أي الرسمي ، في الإذاعة اللبنانية ، وأن يزيد الشهر أو يقصر على ذمة العيون النافذة النظر الخارقة للغيم والماخرة عباب السماء ، إلى أن منّ الله على الشيعة بإذاعات ووسائل إعلام خاصة ، فصار يمكن أن تعلن الشمس الشيعية غيابها بعد الشمس السنية بعشر دقائق ، وصارت القابلة الشيعية تشرف على ولادة ثانية للهلال ، بعد ولادته الأولى على يد القابلة السنية ، وحين تفرعت الشيعية السياسية إلى ثنائية ، بات لكل فرع منهما هلال وشمس. ما شاء الله ! صار بدل علم الفلك والفضاء والتقويم القمري و التقويم الشمسي علمان وفضاءان وتقويمان وعيدان ، وصارت الخليقة خليقتين. ولا يعلم إلا الله إلى اين سينتهي التفريع.
الجديد في هذه الوقائع أن الدولة اللبنانية ، ممثلة برئاسة الحكومة ، المسؤولة مسؤولية مباشرة ، إداريا وماليا ، عن المؤسسات الدينية الشيعية والسنية ، صارت ، هي الأخرى تنتظر إعلان ولادة الهلال من دار الأفتاء والمجلس الاسلامي الشيعي الأعلى ،لا من المركز الوطني للبحوث العلمية ، وصارت تستلحق نفسها وتترجم ” الفتاوى” إلى قرارات إدارية تحدد فيها أيام العيد وأيام التعطيل في الإدارات الرسمية . أخطاء الحكومة في هذا الشأن فادحة:
1- جرت العادة أن تؤجل المؤسسة الشيعية بداية الشهر ونهايته لكي لا يتطابقا مع بدايته ونهايته كما تحددها المؤسسة السنية . كما جرت العادة أن يكون قرار رئاسة الحكومة مبنيا على رأي دار الافتاء ، على أن يتم التغاضي عن خرق القرار من جانب بعض الموظفين الشيعة الذين لا يأتمرون بأمر حكومتهم بل بأمر قيادتهم الدينية . إلى أن صارت الحكومات مجرد ” باش كاتب ” لدى المؤسسات الدينية ، تأتمر بأمرها وتستجيب لطلباتها ، فتصدر المذكرات الإدارية بأمر من المرجعية الدينية ( مذكرتان هذا العام ، لكل ولادة هلال مذكرة).
2- صارت القرارات الحكومية في هذا الشأن بمثابة تشريع للتعطيل رغم أنف الدولة ومؤسساتها وقوانينها ، وربما كان ذلك مبررا للنيل من هيبة الدولة وتسويغا لرفع صورة زعيم الطائفة بدل صورة رئيس الجمهورية في مكاتب الإدارات الرسمية .
3- وهي كذلك تشجع دور الافتاء والمجالس الملية على تعميم الجهل والأمية ، لأن ولادة الهلال شأن لا يقرره فقه الدين ، ولا تدخل ضمن اختصاصات النصوص الدينية التي تقتصر على المبادئ العامة ومنها رؤية الشهر والتمييز بالنظر بين الخيط الأبيض والخيط الأسود . أما التفاصيل فهي متروكة للبشر ، وبالتحديد للعقل العلمي لا الأسطوري ، وليس في ذلك أي انتقاص من مضمون الإيمان ، انطلاقا من المعادلة التي وضعها ديكارت لحل هذه المعضلة بين علوم الدين وعلوم الدنيا : لنقل إن الله خلق الكون وقوانينه وعلى العقل البشري أن يكتشف هذه القوانين. فهل لرئاسة الحكومة أن تسأل من يقررون ولادة الهلال ، على أي علم يستندون؟
4- وهي كذلك تشجع على انتهاك كل القوانين الوضعية ، لأنها حين تعطي المعممين حق القرار في شأن هو من اختصاص العلم الوضعي إنما تشجع على انتهاك كل ما هو وضعي ولا سيما القانون . فلو عاد الأمر لهم في تقرير شؤون الدنيا لجعلوا البلاد ساحة للحروب الطائفية والمذهبية التي لا يكفي الإيمان بالله لوضع حد لها لأن المتخاصمين كلهم عباد الله ، ولأن حالة الانقسام الديني والطائفي والمذهبي السائدة منذ عقود في لبنان تفاقمت بفعل غلبة الولاءات الخارجية ، ذات الابعاد الطائفية ، على الولاء للوطن.
5- آن أن تنتفض الدولة في لبنان ضد منتهكي سيادتها، فالمنتهكون ليسوا كلهم أعداء خارجيين بل إن بعضهم هم من أبنائها .

السابق
الكتائب: لتشكيل حكومة جامعة وتحرير كل المعتقلين في السجون السورية
التالي
أميركا والعالم: عزلة وانحسار أم إعادة تموضع؟