نحن والتقارب الأميركي الإيراني

كيف للكابوس ن يحلم؟

لا نضيف كثيراً بالقول ان التقارب الأميركي الإيراني مبني على مصالح متبادلة ومشتركة. هذا أمر بديهي كل البداهة. فقط يدحض هذه البداهة من يرذل كلمة “مصالح”، بناء على تراثه العريق في هجائها، خصوصاً إذا كانت مصالح الإمبريالية والصهيونية…
ماذا تريد طهران من واشنطن؟ إزالة العقوبات، إقامة علاقات طبيعية معها، الإعتراف بمناطق نفوذها، كما في سوريا، حيث تنتظر مكافأتها باشراكها في مؤتمر “جنيف 2″، أي أن يكون لها حق، مع غيرها من القوى الدولية والإقليمية الأخرى في تقرير مصير سوريا، ولبنان.
ماذا تريد الولايات المتحدة؟ خلافاً للأساطير الأبدية التي بنيناها عنها، تريد الولايات المتحدة أن تقلّل أضرار تداعي سلطتها على العالم، عبر إشراك خصومها الأقوياء في حصة من هذه السلطة. تريد تحييد الشرق الأوسط من القتال والفوضى، المعديَين والمخلّين بالتوازنات، الهشة والمتقلبة، والتي قد تنْفلت تماماً من أيديها. تحييد الشرق الأوسط، من أجل التفرّغ لصراعها المقبل مع الصين، حول العالم بأسره. أميركا تريد، بناء عليه، الكشف عن النووي الايراني بكل حذافيره.
تبقى نقطة أخيرة مبهمة بين الطرفين حول النووي الايراني؛ ومصدر غموضها هو عدم إستقرار معرفتنا بالنووي الايراني على برّ أكيد، بسبب تأرجحنا بين معلومتين متناقضتين: واحدة تقول بأن النووي الإيراني ليس سوى فقاعة من الثرثرة والشعارات، هدفها الإغواء والإستقواء (أسلوب صدام حسين مع أسلحة الدمار الشامل)، وان المفاوضات حوله بين إيران وأميركا مسرحية ملعوبة، شبه مرتّبة النتائج سلفاً. أما المعلومة الأخرى فتقول العكس؛ أي إن النووي الإيراني باتَ على مشارف القنبلة الذرية وحان موعد إيقافه. من دون الدخول في قياس الرأيَين وحجّتهما، أو بانتظار جلائهما… إنتظار قد يطول، فإن إيران وأميركا يتقاربان، يتفاوضان، يتبادلان المبادرات والمقترحات، يضعان على الطاولة بنودهما وشروطهما وتسوياتهما… ولا ذكر حرف واحد عن فلسطين، أو المستوطنات المتسارعات البناء في القدس، أو إحتلال الجولان…. كل تلك الموضوعات التي تشكل منها محور “المقاومة”. هل تذكرون؟ عندما كان “حزب الله” يرفض تسليم سلاحه الموجه ضد خصومه من أهله، لأنه، بهذا السلاح يريد الوصول الى القدس؟ “حزب الله” الذي لا يأتمر إلا بأمرة المرشد الأعلى، الشخص نفسه الذي منح بركته للتوجه الإيراني الجديد تجاه أميركا. لا حاضر التقارب الإيراني الأميركي، ولا مستقبله يسمحان بأن تكون على رأس بنود المفاوضات القضية الفلسطينية ومواجهة “الشيطان الأصغر”، إسرائيل… ماذا نفعل نحن إذن في هذا المشهد؟ ما هي وظيفتنا؟ ما هو دورنا؟ الأرجح، ان هذا “الملف” سوف يكون نقطة قوة الإيرانيين: تلك التي تسمح لهم بالضغط على الأميركيين إذا احتاج الأمر، وسوف يحتاج… وإلا فـ”مكافأة”، أولية، على إدراج مناطق النفوذ التي بنتها إيران على حساب أرواحنا وإستقرارنا ودمار بلادنا. في كل الحالات، أميركا وإيران رابحان كبيران من الحرب على أرضنا. الأولى أضعف من الثانية، إذا أخذنا النسبية بالإعتبار و”الحصانة” التي لا تملكها الأنظمة الديموقراطية.
الآن نحن أمام إحتمالين: إما أن يفشل التقارب الأميركي الإيراني، أو ينجح، نجاحاً بطيئاً ربما، ولكنه واعد. في الإحتمال الأول، والأقل إمكانية، نكون نحن أول المتأثرين: سوف نعيش حالة من التمديد للعنف والفراغ السياسي الإنتظاري. ولا يبدو في أفق هذه الحالة سوى كتلة من الغيم الأسود المعتم. أما في إحتمال النجاح، ففخر لإيران ونظامها بانه أنقذ نفسه في آخر دقيقة من الإختناق تحت وطأة العقوبات، فخر بالاعتراف بها كلاعب إقليمي ذي وزن. وكل خطوة تتقدم بها في هذا التقارب سوف تكون اقتراباً حثيثاً الى “نصرها”؛ فيما أميركا سوف تسعد بتوكيلها وظيفة الشرطي الاقليمي كما كانت عليه في زمن الشاه، مقابل عدم إشعالها الجبهات بوجه اسرائيل. لاحظ الغزل الدؤوب للـ”يهود” في ايران، بعدما كانت إيران تنادي بمحو إسرائيل عن الخريطة، فتثير حماستنا، نحن السذج من أبناء هذا المشرق…
الأطرف من هذه السذاجة، هو ذاك الاستقبال الذي لقيه التقارب الأميركي الإيراني، من قبل ممانعينا الأشداء الأقوياء البنية، المفتولي العضلات. تراهم يحتفلون بهذا التقارب وكأنه إنتصار لهم، كأن كل خطوة لروحاني أو وزير خارجيته محمد ظريف، هي خطوة نحو مستقبل واعد مشرق لنا ولذريتنا… فيزيد غرورهم وصلافتهم وإمساكهم برقبة البلاد. والأرجح ان المعنى الذي يعطونه لهذا الانتصار المبين والذي سوف يزداد بيانه يوماً بعد آخر، وهو المعنى الذي لا يتفوهون به، يشبه المعنى الذي تبناه بشار الأسد بعد تسليمه الكيماوي، سلاحه الوحيد ضد إسرائيل. بشار تنفّس الصعداء بعد ذلك، وشعر بأن كرسيه لن يفلت منه، على مدى الدهر، كما وعد أبيه. ينتصر على شعبه، فيبقى. هكذا حسبها بشار وروحاني وأوباما وبوتين؛ كلٌ يدافع عن نظامه-بلاده. أما الإنتصار بقاموس ممانعينا، فأنظر الى حماسة أحدهم وقد أوحى اليه التقارب الأميركي الإيراني إطلاق نداء من أجل تشكيل “مقاومة لمواجهة اسرائيل والرجعية العربية الحاكمة في السعودية والخليج”، بدعم إيراني! طبعاً ليس كل ممانعينا فاقدين للعقل والذوق. منهم من يسكت ومنهم من يتفادى، ولكن الغالبية طغت عليها الفرحة بهذا التقارب، ولم يثِر لديها أية ريبة. والخطر الوحيد في هذه الحالة ان يتصرف أيضا حزب الله وفق مصلحته، فلا يحسب لغير سلطته وسلطة مرشده الإيراني، بما ان العلاقة بينهما عضوية، حتى الآن؛ وفي “أسوأ” الحالات يدخل الحزب في صراع الأجنحة الدائر الآن في إيران حول التوجهات الجديدة للرئيس روحاني.
يقول علي لاريجاني، رئيس البرلمان الإيراني، والمحسوب على الجناح “المحافظ الواقعي”، إن الفرق بين الرئيس أحمدي نجاد، الرئيس السابق، وحسن روحاني، الرئيس الجديد، هو “إختلاف نهجهما التكتيكي” (“لوموند” 3-10-2013). ومن بين الموارد التكتيكية التي امتلكتها إيران، إشعال الجبهة مع إسرائيل، بـ”حزب الله” أو “حماس” أو “الجهاد الاسلامي”، وبدعم لوجيستي ديبلوماسي عسكري سياسي… من سوريا. ما يهمنا هنا، هو اننا كنا مجرد بنود في تكتيك، له إستراتيجية تتجاوزه بسنوات ضوئية. هو يتغير، أما الإستراتيجيا فلا.
من ضمن كنوز التكتيك الإيراني كانت طبعاً المعاداة للشيطانَين، الأميركي والإسرائيلي. الشيطان الأول خطا خطوات سريعة معه. لم يعد شيطاناً: “ان شعار “الموت لأميركا” ليس مكتوباً في القرآن” يقول حجة الاسلام محمد ربحباح، إمام مسجد اصفهان. تبقى اسرائيل التي سوف يقدم لها الإيرانيون إغراءات محنَّكة ومحسوبة، وربما ملعوبة؛ من الآن لم تعد شيطاناً، بعدما صارت من عهد بائد، تلك الخطابات والشعارات والعقائد التي رفع شعلتها أحمدي نجاد، حول اليهود والمحرقة وإلغاء اسرائيل: لأنها كانت مجرّد “تكتيك”… المسار الإيراني الإسرائيلي سوف ينتظر ان تستقر موازين القوى الجديدة على ما يرضي كل طرف بقسْمته. كانت علاقات عضوية بين أميركا وإسرائيل، وهي الآن في طريقها الى التفكّك البطيء. كانت عداوة إيرانية صميمة، وجودية، بين أميركا وإيران، وها هي تنحو نحو التقارب وربما الصداقة أو التحالف. الحلقة لن تكتمل، إلا بتطييب خاطر إسرائيل، بأن تسكت طهران، ومعها أميركا، على تدميرها لمشروع الدولة الفلسطينية.
طبعاً سيتغير التكتيك، أو انه في طريقه الى التغير. هذا التكتيك الذي هو نحن، مصيرنا، مستقبلنا، سيخضع للتغيير بناء على متطلبات التفاوض والتسوية بين أميركا وإيران. من هنا تساؤلات لا يمكن تفاديها: ماذا يفعل الآن الممانعون بجهازهم النظري والثقافي الذي بني كله على العداء البدائي للغرب ولأميركا وإسرائيل؟ هذا العداء التكتيكي؟ كيف سيعالجون التنافر الواضح بين إسطواناتهم المكرّرة وبين المصالح الإيرانية القادمة؟ حسنا، “حزب الله” نفسه: ما هي الوظيفة المتوقعة لسلاحه بعدما يكون “إنتصر” في الشام، كما يتصور هو، بعد الولي الفقيه؟ هل يعود الى لبنان؟ أو يستوطن، أو ينتشر، أو يبتلع كل لبنان؟ فتحكمه إيران بواسطته، بعدما كان متحكّماً به؟ هل هذه هي أحلام حزب الله”؟ أم انه لم يَعُد يحلم، ومن زمن بعيد…. فكيف للكابوس أن يحلم؟

السابق
قطر من معتدية الى تسووية، والسعودية هسترت لأنها تخسر
التالي
«الوطن» عن مصادر «حزب الله»: معركة القلمون الفاصلة قبل إنعقاد «جنيف 2»