كلُّ لبنان مخيّم سوري

فيما تنهش الذئابُ الداخلية والإقليميّة والدولية من كل نوع جسدَ الخارطة السورية ومجتمعَها، تواصل الديموغرافيا السورية فيضانَها البائس بأغنيائها ومتوسّطيها وفقرائها، بمدنيّيها وريفيّيها، على نفسِها وعلى كلّ المنطقة المحيطة وعبرها بأشكال مختلفة إلى العالم.

حراكٌ كارثيٌّ كاملٌ من العنف والتدمير والنهب يتعرّض له بلدٌ بشكلٍ قلّ نظيرُه، على الأقل في وعي تجاربنا العربية والمسلمة منذ الحرب الأهلية اليمنية في الستّينات. لقد فاق المذبحُ السوريُّ كلَّ عنفٍ سبقه في الخمسين سنةً الأخيرة في العالم العربي. وحتى قياسا بأعتى حالة – وهي حالة الإبادة القصوى التي شهدها الصومال- فإن فارق الغنى الاجتماعي والعمراني والثقافي المخزون في بلد كسوريا يجعل حالتها الراهنة المتمادية أرهبَ بكثيرٍ من الحالة الصومالية حتى لو كان الأخضر الابراهيمي الواعي عميقا لمعنى تدمير سوريا يستخدم تحذيرَ الخطرِ من “الصوملة” في سوريا الذي يَقصُد به خطرَ التلاشي الكامل للدولة.
أخبرني مؤخّراً مسؤولٌ غربيٌّ في مؤسّسة إغاثة للنازحين السوريين تعمل انطلاقاً من تركيا في مخيماتٍ داخل الأراضي السورية ولكن قريبة جدا من الحدود الدولية أن منظمّته طلبت من كوادرها الأجنبية عدم تمضية العطلات في محافظة “هاتاي” (لواء اسكندرون) في مناطق ذات كثافة علوية منعاً لتعرّض هذه الكوادر لأي توتّرات يمكن أن تحصل في هذه المناطق بسبب الاحتقان الطائفي المتولّد عن النزوح. هذا غيض من فيض الحساسيّات المتولّدة عن الأزمة السورية. لكن في هذا الفيضان الديموغرافي الأمني والسياسي والاقتصادي السوري على المنطقة المحيطة يحتلّ التأثير على الوضع اللبناني الخطورة الأكبر بدون أدنى شك. جميع الدول المجاورة لسوريا هي دول طَرَفيّة بالنسبة لسوريا إلا لبنان: نحن دولة في قلب سوريا لا على أطرافها. وذلك بمعنيين عمليّين متداخليْن نشهد تفاقمَهما كلّ يوم:
المعنى الأول هو الجغرافي البشري والمعنى الثاني هو السياسي أي دخول المجتمع اللبناني في قلب الحرب الأهلية السورية. لا تُشْبهنا في ذلك، أي في المعنى الثاني لا الأول، سوى الحالة العراقية سُنةً وشيعة.
شهد لبنان والمنطقة عام 1948 النكبة الفلسطينيّة. آثارها كانت كبيرة على مستوى المنطقة. كيانٌ مثل الأردن أعادت تلك النكبة تأسيسه ديموغرافياً لا فقط ما أصبح عليه حجمُ المكوّن الفلسطيني على الضفّة الشرقيّة منه بل في ضمّ منطقة فلسطينيّة أساسية آهلة على غربه إلى قلب الدولة الأردنية وهي الضفة الغربية بما نَقَلَ الأردن من إمارةٍ إلى مملكة شهدت حربا أهلية سريعة عام 1970. ويستمر هذا التأثير البنيوي حتى بعد تخلّي الملك حسين عن الضفة الغربية والاعتراف بكونها جزءاً من الكيان السياسي الفلسطيني الذي لا يزال يناضل للتحوّل إلى دولة مستقلّة، ولا يزال يحمل معه احتمالات الخطر على الكيان الأردني الذي تديره مؤسّسة ملكيّةٌ قويّة.
تَوزّع الاستقبالُ اللبناني للاجئين الفلسطينيّين عام 1948 بشكلٍ أساسي على مخيماتٍ معظمها على مداخلِ أو مخارجِ المدن الكبيرة. وبلغ الوجودُ الفلسطينيُّ في أعلى تراكماتِه السكّانيّةِ نصفَ مليون. بينما في الفيضان السوري الحالي لا وجود عمليا لفكرة “المخيّم” – حتى لو وُجِدتْ تجمّعاتُ خِيَمٍ محدودة – لأسباب يتداخل فيها مزيج من الفضائل والنذالات اللبنانية معا. لكن الحصيلة هي أن لبنان أصبح كلّه مخيّماً للنازحين السوريّين. إنه “مخيّم بمنازل كثيرة” ولكنه مخيّم واحدٌ من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه. مخيّمٌ يضم كل أطياف وطبقات المجتمع السوري “السابق”.
أظن أنه لم يعد هناك – ولم يكن أصلاً – مجالٌ لرسم نمط آخر للاستقبال اللبناني للنازحين السوريين. هناك ما يتجاوز في هذه الصورةِ – صورةِ لبنانَ بكاملِهِ كمخيّمٍ واحد- مجرّدَ الضعفِ الفضائحيِّ التقليدي للدولة اللبنانيّة والقوّةِ الفضائحيّةِ الأعلى لنمطَيْ الانخراط الحربْ أهلوي داخل سوريا للقوى المذهبيّة المسيطرة عند السُنّة والشيعة اللبنانيّين… هناك الوشائجُ العميقة المتواصلة التي تجعل كُراتِ المأساةِ السوريّةِ تتدحرج نحونا إلى “بيئاتها الحاضنة”، وهي ليست طائفيةً فقط بل اجتماعية وطبقية وثقافية أيضا، كما تتدحرج الكراتُ الملوّنة، كلٌ نحو الحُفر التي تحمل اللون نفسه في بعض الألعاب الإلكترونيّة.
سبق أن كتبتُ مرارا أن تأثير الأزمة السورية على الكيان اللبناني هو أعمق من تأثير النكبة الفلسطينية ولا زلنا في أوّل الطريق. طريقٌ تكتب قواهُ الطائفيّة، وتحديدا السنّية والشيعية، ما أسميناه سابقا “نهاية لبنان الكبير” وينشأ بالمقابل “المخيم السوري الكبير على كل لبنان”. كأن هذه “السَّوْرنة النزوحية” البائسة هي، لا اللبننة الهشّة، شكل وحدتنا – انقسامنا القلقيْن الجديديْن. فالمسيحّة اللبنانية بقيادة الكنيسة المارونية وبقرار فاتيكاني أصبحت أيضا مسيحيّةً سياسيّةً مشرقيّةَ وليس فقط الشيعيّة والسُنّيّة السياسيّتين الملتحقتين بمحوريهما الخارجيّين.
كل هذه الأسطر السابقة أعلاه، لها “ترجمة” أخرى: كم ظهر في العمق أننا، نحن اللبنانيّين، جميعاً سوريّون، بأغلبيّتنا السنّية وبأقليّاتِنا الشيعيّة والمسيحيّة والدرزية.

السابق
قوى الامن تدقق في هوية سيارة مركونة في حلبا
التالي
هل تسرّع مواقف جنبلاط تشكيل الحكومة أم تلغيها؟