حتى لا تظل رواية «حرب العبور» ناقصة المعنى

أما وقد أسقطت الثورة في مصر عهد مبارك في تفجرها الأول في 25 كانون الثاني 2011، ثم استعادت زخمها بعد فترة من التيه ومحاولة حرف المسار، فأسقطت نظام «الإخوان» بالتظاهرات غير المسبوقة بحشدها الأسطوري في اوائل تموز 2013، بما يمكن من إعادة تظهير صورة مصر الحقيقية وانتمائها الأصيل إلى أمتها.
أما وقد بات ممكناً أن يكتب التاريخ بالوقائع الحقيقية الموثقة وليس بالمواقف السياسية الانفعالية او بطمس بعض الحقائق التي لم تكن تلائم «النظام» وتطلعاته وتوجهاته.
أما وقد جاءت ساعة الحقيقة التي لا يخاف منها العهد الجديد، فلا بد من إعادة تظهير الصورة الكاملة للحرب المجيدة التي تعددت تسمياتها وفقاً للغرض السياسي، فهي في مصر «حرب أكتوبر» او «حرب رمضان» وهي في سوريا ـ الشريك بالدم- «حرب تشرين التحريرية»، وهي عند العرب جميعاً الحرب المجيدة التي ضيع الغرض السياسي- فرصة انتصارها التي كانت متاحة وتأكيد هويتها الأصلية التي تؤكد قدرة العرب (ممثلين هنا بمصر وسوريا أساساً ومعهما سائر الأشقاء) على الإنجاز متى تلاقت الارادات على الإيمان بالمصير المشترك.
اليوم وبعد أربعين سنة من ذلك الموعد القدري مع إسقاط أسطورة «الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر» وكذلك إسقاط خرافة أن العرب لا يتلاقون على هدف واحد، حتى لو كان التحرير، لا بد من تصحيح الصورة التي شوهت بالقصد وإعادة الاعتبار إلى الدم الذي أريق فوق رمال سيناء أو فوق هضبات الجولان، وتوكيد الدلالات العظيمة لذلك التلاقي التاريخي الذي كان مؤهلاً لإعادة صياغة التاريخ العربي الجديد.
لقد رسخت في الأذهان روايتان لتلك الحرب، أولاهما مصرية تركز على العبور المجيد إلى سيناء عبر قناة السويس، وهو إنجاز عسكري تاريخي عظيم بلا شك، مع إهمال مطلق للجبهة السورية بكل الوقائع المؤكدة انه إنجاز تاريخي للجيش السوري… وكذلك أهمل دور الإسناد العربي للجيشين الشقيقين اللذين خاضا تلك الحرب، وهو إسناد كان له موقعه المؤثر في القفزة الأولى وفي تحقيق نتائج ميدانية باهرة. قبل أن تتدخل الوقائع السياسية لتغير مسار الحرب، فتخرج منها أي ذكر للعرب في تلك الحرب التي أسقطت الكثير من الادّعاءات والدعايات الغربية عموماً والإسرائيلية خصوصاً، حول أن العرب لا يعرفون من الحرب إلا الخطابات المبررة للهزيمة وإلا الفذلكات التي يبتدعها قادتهم لترسيخ النزعة الانفصالية، او الإقليمية عن طريق الإيحاء بان الآخرين لا يمكن الثقة بهم أو الاعتماد عليهم في أية شراكة في حرب حقيقية ضد العدو الواحد.
صار للحرب روايتان: لكل نظام من النظامين اللذين أرسلا جيشهما إلى الجبهة، واعتمدا التوقيت الموحد لبدء المعركة رواية مختلفة عن رواية الشريك بالدم إلى حد يقارب إنكار دوره… فصار «العبور» في مصر هو التخليص المقصود للحرب، بينما اعتبرت سوريا أن القيادة المصرية قد خذلتها فأوقفت تقدم الجيش المصري وهو في ذروة انتصاره ومنعته بذلك من تطهير سيناء جميعاً من الاحتلال الإسرائيلي، مما ألقى العبء القتالي الثقيل على الجبهة السورية وحدها، فأعجز الجيش السوري عن الاحتفاظ بنتائج تقدمه الباهر على جبهة الجولان حتى مشارف بحيرة طبريا.
وكان مأمولاً، وقد وصل إلى موقع القرار في مصر أهل الثورة، أي شعب مصر، يتقدمهم الجيش كطليعة منفذة لإرادة الجماهير التي خرجت في أعظم تظاهرة في التاريخ، أن يتم تصحيح المغلوط وإعادة إثبات المطموس من دور الشريك بالدم في تلك الحرب، أي الجيش السوري، ثم سائر الدول العربية التي اندفعت تقدم الدعم سواء بالسلاح المؤثر على مسار الحرب: طائرات الميراج التي اشترتها ليبيا لمصر والأسلحة والذخائر، بما فيها الصواريخ من الجزائر، والدبابات العراقية التي أسندت الجيش السوري في معركة الجولان فضلاً عن المتطوعين… وبشكل خاص ذلك القرار التاريخي الذي اتخذه الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز بوقف ضخ النفط، وهو القرار الذي كلفه حياته، فضلاً عن الآلاف من رجال القوات الخاصة الذين أوفدتهم الجزائر والمغرب واليمن إلى الجبهتين فقاتلوا قتالاً مجيداً وسقط منهم مئات الشهداء مؤكدين بدمائهم وحدة المصير. ليس سراً أن أهداف كل من الرئيسين الراحلين أنور السادات وحافظ الأسد من هذه الحرب لم تكن متطابقة، خصوصاً وقد كشفت الوقائع قبل الوثائق التي نشرت في ما بعد اختلاف الطريق إلى حد تبادل الاتهامات بالانفراد في قرار وقف الحرب.
لقد اتهمــت القيــادة الســورية الســادات بأنــه أوقف الحرب بناء لاتفاق مسبــق مع الإدارة الاميركية، تمهيداً لأن يذهب إلى الصلح المنفرد مع العدو الإسرائيلي، وهو الصلح الذي تجــاوز الخطوط العسكرية إلى اتفاقات «كمب ديفيد»، بعدما كانت قد سبقتها «الزيارة» المباغتة التي قام بها الرئيس المصري إلى فلسطين معلناً أمام «الكنيست» الإسرائيلي انتهاء عصر الحروب تمهيداً لإقامة سلام دائم وثابت مع من كان العدو القومي، إسرائيل، تحت الرعاية الاميركية… وهو كان قد مهد لذلك بإعلانه أن تسعة وتسعين في المئة من الأوراق هي في اليد الاميركية، وان الحروب عبثية، وأن استعادة الشعب الفلسطيني حقوقه في أرضه لا يمكن أن تتم إلا في ظل السلام وليس الحرب.
في أي حال، فعلى امتداد أربعين سنة ترسخت في أذهان الشعوب العربية جميعاً روايتان لهذه الحرب المجيدة: الأولى مصرية رسمية تركز على «العبور» ـ وهي عملية بطولية ولا ريب – وتهمل كل ما عداه، وبالذات كل ما يتصل بأن قرار الحرب كان مشتركاً، وأن الجيشين العربيين المصري والسوري قد خاضاها معاً وبتوقيت واحد ووفق خطة موحدة، وبإسناد مؤثر عسكري ومادي جاء من معظم الدول العربية، والثانية سورية رسمية تركز على دور الجيش السوري في محاولة تحرير الجولان ثم انكشافه أمام العدو الإسرائيلي بعدما تم تجميد الجيش المصري المنتصر بعد قفزته الأولى ـ العبور- من دون إخطار شريكه بالدم بهذا القرار، ما جعله يواجه، منفرداً، الكتلة العظمى من الجيش الإسرائيلي المتفوق بالطيران وبالدعم الاميركي المفتوح، وهذا ما حرمه من الاحتفاظ بما كان قد حرره من أرضه المحتلة.
ليس القصد من استعادة هذه الوقائع التهوين من خطورة القفزة الجبارة للجيش المصري وإنجازه «العبور» محققاً انتصاراً باهراً يكسر إسطورة الجيش الإسرائيلي.
لكن القصد أن نحمي التاريخ العربي من أي نقص قد يسيء إلى كرامة الــدم المــراق علــى عتــبة التحرير، والأخطر أن نحمي علاقات الأخوة بين البلدين اللذين ربطتهما الشراكة بالدم في ساحة الحرب، مؤكدة وحدة المصير… ووحدة العدو، في الماضي والحاضر والمستقبل، الذي ما يزال يحتل فلسطين ومعها بعض الأرض المصرية وبعض الأرض السورية، فضلاً عن تهديده الدائم للبنان الذي احتل بعض أرضه لفترة (1978) ثم اجتاح عاصمته بيروت في صيف العام 1982، منصباً رئيساً للجمهورية بقوة سلاحه الذي مكنه من طرد المقاومة الفلسطينية من لبنان.
إن العدو الذي كان عدواً ما زال عدواً لكل العرب. وهو ما زال يحتل فلسطين وقرارها، سواء في الضفة الغربية التي لا تتحرك سلطته فيها ولا يخرج أي مسؤول منها إلى الخارج إلا بإذن إسرائيلي، في حين أنه ما يزال يحاصر غزة ويهدد باجتياحها في أي وقت، وقد شن عليها حربين متعاقبتين، تخللتهما حرب على لبنان سنة 2006.
وإذا كان حكم «الإخوان» قــد أهـان المصــريين (وكل العرب) بتلك الرسالة المذلة التي وجهــها إلى الرئيس الإسرائيلي، ثم بالتواطؤ على غزة وهي تحت النار الإسرائيلية نتيجة «وساطة» أميركية، فإن الثورة المجيدة التي أنهت حكم «الإخوان» تؤهل مصر لأن تمسح ذلك العار حتى لا نقول «الخيانة الوطنية».
إن مصر الثورة مطالبة بأن تعيد الاعتبار إلى مجموعة من القيم التي تجسدت في حرب «رمضان» ـ «العبور» ـ «تشرين»، وأولها وأخطرها أن مصر هي بعض أمتها، وأن شراكتها مع سوريا لم تكن استثناء أو خروجاً على القاعدة ، تماماً كما أن مشاركة العديد من الدول العربية في تعزيز قدرات الجبهتين المصرية والسورية كانت التزامات بموجبات الأمن القومي والدفاع عن الذات ومواجهة العدو الواحد لجميعهم، والذي ما زال يعزز قدراته القتالية فيهــدد لبــنان ويغير على سوريا وعلى العراق، و«يأسر» الأردن، بل أنه يهدد إيران بسيفه الطويل.
لحماية شرف «العبور» وبطولة الجيش المصري في إنجازه،
ولحماية رفقة السلاح وأخوة الدم مع الجيش السوري وسائر الفرق أو الكتائب العسكرية التي جاءت لنجدة مصر وسوريا،
ولحماية الحقيقة أولاً وأخيراً يجب إعادة الاعتبار إلى الثوابت الوطنية والقومية التي أكدتها حرب أكتوبر ـ تشرين.
والثورة التي أنقذت مصر من الدكتاتورية والدجل السياسي باسم الدين تفرض إعادة كتابة التاريخ الحديث لمصر، وبالذات هذه المحطة الفاصلة من تاريخها الحديث ودور الأخوة بالدم فيها.

السابق
أميركا وإيران حليفتان… بعد عقدٍ!
التالي
إنفتاح تُمليه مصالح استراتيجيّة