إنفتاح تُمليه مصالح استراتيجيّة

الثابت الذي يُبنى عليه أنّ تطوّراً قد طرأ على العلاقات الأميركيّة ـ الإيرانيّة، البعض يصفه بـ”الكبير والإيجابي”، والبعض الآخر يعتبره “بداية تحوّل”، فيما المنطق يبقى أسير الواقعيّة، وما يمكن تأكيده، أنّه حتى الآن لا العقوبات الدولية قد رُفعت، ولا البرنامج النووي سلك الطريق الذي يريح إسرائيل والغرب. وفي انتظار ما قد تحمله الأيام من مستجدّات، لا بدّ من التوقف عند إشارات ديبلوماسيّة ثلاث:
الأولى: إنّ لدى الولايات المتحدة الاميركية رغبة ومصلحة في حوار مباشر مع طهران. سمحت في السابق بأن يكون الحوار مع مجموعة الـ”5 + 1″، عندما كان اهتمامها منصبّاً على إدارة “ورشة الربيع العربي”، وانعكاساته على النفط، والوقوف عند هواجس إسرائيل من البرنامج ومحاذيره، وكانت طليعيّة في إقتراح العقوبات التي تلزم المجتمع الدولي بفرضها لحمل طهران على الإمتثال الى الشروط الإسرائيليّة – الغربيّة.
اليوم اختلفت المعايير، وأصبحت الإدارة الأميركيّة أمام حسابات جديدة، تريد أن يكون الحوار مع طهران مباشراً، ولا يقتصر على قنوات الـ”5 + 1″، ولا مانع من أن يستمرّ، لكن بإشرافها، ووفق أولوياتها؟!.
وتتمثّل الإشارة الثانية بالصين التي تُعتبر القوّة المحرّكة، لا بل الضاغطة على الولايات المتحدة لإحداث هذا “التعديل” في الموقف تجاه إيران. هناك مصالح أميركيّة مُلحّة تقضي بالإنفتاح على الصين، إقتصاديّة، وأمنيّة، وإستراتيجيّة. وأخذت الإدارة في مرحلة من المراحل علماً برغبة صينيّة تقضي بوجوب إحداث تغيير في سياسة العزل والعقوبات المُتّبعة تجاه طهران لسببين جوهرييّن:
الأوّل، لأنّ الصين حليف اقتصاديّ، و”زبون” دائم ومميّز للنفط الإيراني، وهذه من الأولويات التي يجب أخذها في الاعتبار في أيّ تقارب أميركي ـ صيني. والثاني، أنّ لإيران موقعاً استراتيجياً مشرفاً على الجمهوريات السوفياتية القوقازيّة سابقاً، والغنيّة بالطاقة والمعادن، وأنّ التحالفات الإقتصاديّة الجديدة التي تنطلق من الشرق الأوسط لا بدّ من أن تأخذ طريقها نحو تلك الجمهوريات، خصوصاً ما يتصل منها بإمدادات النفط والغاز، في وقت يحاول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين العمل على إستعادتها عن طريق تعاون إقتصادي، أشبه بفيدراليات تؤطّرها القوانين، والمصالح المشتركة. لذلك، وبناءً على ما تقدّم فإنّ الانفتاح الأميركي على إيران تمليه تحالفات إقتصادية تتجاوز الحسابات الإقليميّة الضيقة.
وتتمثّل الإشارة الثالثة بالدراسات التي رفعتها مراكز البحوث الأميركيّة الى دوائر القرار، وقد استندت الى بعدين: عملي، وإستنتاجي. على المستوى العملي هناك إقرار بأنّ سياسة العقوبات قد فشلت، وتحوّلت ضد الشعب الإيراني، فيما الدولة بأجهزتها وإمكاناتها أثبتت مضيَّها في تنفيذ مخططاتها المرسومة بلا عراقيل تُذكر، خصوصاً ما يتعلّق منها بالبرنامج النووي.
وقدّمت إسرائيل أكثر من مرّة، وقامت بمحاولات عدة، لحمل الولايات المتحدة على شنّ ضربة عسكريّة محتملة كبديل من العقوبات التي أظهرت عقمها وفشلها، إلّا أنّ واشنطن، ولحسابات تتعلّق بمصالحها الخاصة، رفضت الإنصياع، وغضّت الطرف، وخرجت بعد الأزمة المالية ـ الاقتصاديّة الخانقة بشعار هو الأوّل من نوعه: “لن نحارب نيابة عن الآخرين… لن نحارب لمصالح الآخرين؟!”.
على المستوى الاستنتاجي، صمدت إيران في وجه صدّام حسين عندما خرج يوماً لتأديبها في حرب كلّفت العراقيين مليون قتيل، وعندما قادت الولايات المتحدة حملة عسكريّة لإزاحته، ونشر الديموقراطية في بلاد الرافدين، وجدت أمامها طهران بقضّها وقضيضها، ومخابراتها، وتحالفاتها، وأسلحتها، ونفوذها، وهذه حقائق عكستها الوقائع الميدانيّة على الأرض، وأقرّ بها القاصي والداني حتى الولايات المتحدة بعد انسحاب جيوشها.
وبعد مرور ما يقارب ثلاث سنوات من بدء الانتفاضة في سوريا، اكتشفت الإدارة الأميركيّة، ومعها الدول الغربيّة المتورّطة، حجم الدور الإيراني، ومدى النفوذ الذي يحتلّه في الداخل السوري، إلى حدّ أنّه دفع بحزب الله في مرحلة من المراحل إلى المشاركة علناً في القتال الى جانب قوات النظام، من دون أن تتمكّن القوى المعترضة من التأثير بمقدار كبير وفاعل على رغم الحملة التي شنّتها عليه دول مجلس التعاون الخليجي، و”التصينف” الذي توصّل إليه الإتحاد الأوروبي بوضع “جناحه العسكري” على لائحة الإرهاب.
ويرتاح الدور الإيراني في لبنان على قاعدة من “الثوابت” التي خطفها حزب الله من الدولة والمجتمع، على رغم سيل الإتهامات والإنتقادات الجارف ضدّه، فيما يتراجع الدور الخليجي نتيجة الالتباس في قدرته، و”التخبّط” الذي يتحكّم بقراراته والممارسات. إلّا أنّ أتباع الطرفين يلتقيان عند بوّابة “التحوّل” في العلاقات الأميركيّة ـ الإيرانية، في انتظار نتائجها، ومردوداتها على الساحة اللبنانية.

السابق
حتى لا تظل رواية «حرب العبور» ناقصة المعنى
التالي
لغز مقتل جامع جامع