الرفيقة وداد: الحرب العاهرة.. والسلم الراهب الزاني

د.عماد م الامين
تنتهي الرواية بأن تصير "الزانية" منى.. راهبة، والزانية وداد.. زوجة المسؤول العسكري. انتصرت الحرب على الجميع. انتصر "تعصّب" منى و"تديّنها" على حياتها الدنيوية، فهجرت زوجها، وهجرت حبيبها. وانتصرت الحرب على وداد،التي انفصلت عن زوجها بعد ان "وزعت" أبناءها بين المهاجر والزواج والغربة، واختارت ان تكون ملك "العسكر".

الرواية ليست نصاً تاريخيا، او تحقيقا صحفيا، ولا هي مسلسل احداث ووقائع ثابتة لاتحتمل الخيال والتركيب، واعادة صياغة شخصياتها. لكنني، وأنا اقرأ رواية “الرفيقة وداد” للطبيب الكاتب عماد الأمين، لم استطع الا ان ارى في بلدة فطر الحدودية الجنوبية، التي تدور الاحداث فيها، بلدة عيترون حيث ولد الروائي وعاش.

اما قرية عين الوادي “المسيحية” فلم اجد معادلا لها الا بلدة عين ابل القريبة من عيترون. بلدتان تشكلان الى جانب بيروت، بدرجة اقل، مسرحا لاحداث الرواية. بيروت كانت بكامل هويتها في الرواية. اما عيترون وعين ابل فاخفاهما الكاتب تحت قميص انثى شفاف، لكنهما كانتا كنهدين صارخين يصرحان عن نفسيهما ويفتحان ازرار الخيال على مايخفى منهما وابعد.

لم يتفرد عماد الامين في تناول موضوع من موضوعات الحرب والتهجير، ولا كان الاول في مقاربة العلاقات داخل المجتمع من بوابة الجنس، وما يستتبعه ذلك من جدل حول وظيفته في النص الروائي، ولا كان متفردا في اشاراته اللماحة والعميقة الى نمط العلاقات داخل الحزب الشيوعي وجدلية العلاقة بين السياسي والعسكري، بين الفكر والبندقية. لكن عماد كان، وهو يمارس فعل التقاط نبض القارىء وانفاسه، يبدو كطبيب يغوص في النفس الانسانية محللا ومبتعداً عن مهم،ة ربما طالما كان مطالباً فيها بتقديم اجابات شافية.

لكنني عندما انهيت قراءة الرواية في جلسة واحدة ومن دون توقف، وجدت نفسي متعاطفا مع ابطالها. لم اجدني مستفزا من شخصية وداد التي كانت تشعر بالرضى وهي ترد على علاقة زوجها ابراهيم مع الشابة غزل، المسيحية، بخيانته مع ابو امين، رفيق زوجها في القرية، والاقل شأناً منه، ولا خيانتها مع غيفارا، رفيق زوجها ايضاً عندما انتقلت مع عائلتها الى خارج القرية قسراً بسبب الاعتداءات الاسرائيلية، ثم لاحقا مع المسؤول العسكري في الحزب الشيوعي الذي صار زوجها الثاني في ختام الحكاية.

ايضاً قد يكون ذلك تفصيلا. لكن براعة الروائي – الطبيب جعلته انسانياً، اي ان ما جرى من خيانات ليس ما يرسخ من صورة قاسية لدى القارىء او المجتمع. فمشهد الخيانة ليس الا ذروة مسارات يحار الانسان ان كانت خيارات او تدافع احداث ووقائع تجعل منه نتيجة طبيعية وليس شراً ذاتيا.

فعل الخيانة في العلاقات الزوجية، يبدو في النص الروائي حاضراً بقوة وحضوره في العلاقة الزوجية، اي في علاقة الزوجين الجنسية والعائلية عموما، سواء في علاقة وداد الشيعية وزوجها الذي لا يقاربها الا وهي نائمة وظل يحتقرها حتى انتهت الى احتقاره واهانته، او منى معلمة اللغة الفرنسية المسيحية التي تتعرض للاغتصاب من زوجها. فيما الحب وذروته في النفس والجسد تقبعان في مكان آخر هو في الخيانة، فقط.

قد يكون الاستنتاج قاسيا او مريبا، لكن عماد الامين يذهب اكثر من ذلك في تحدي القارىء. ليس في انسنة الخيانة وتقديمها له بشكلها العاري تماما، بل بالذهاب الى الاشكاية الاشد قسوة: تعاطف الابن مع خيانة امه لأبيه واعانتها.

فشارد اقرب ابنائها اليها، واكثرهم وعياً وعلما وتميزاً، كما وصفته صديقة أمه، منى، تلك التي احبها منذ سنّ الثامنة. عشقها رغم فارق 15 عاما بينهما، واحبته رغم كونها متزوجة. وكان عنوان خيانتها أن سمّت ابنتها “زينب”، تعبيرا عن هذا الحب والاخلاص لحبيبها لشارد، الشيعي. وشارد لم يحب احدا سواها طيلة حياته. ولا تزوج بعد ان قررت التحول الى راهبة.

صارت راهبة في لحظة مفصلية من مسار الاحداث اللبنانية لحظة اغتيال رئيس الجمهورية المنتخب بشير الجميل الذي كرهته وما احبته يوماً. هي منى نموذج الفتاة المسيحية التي حاولت الخروج من اسر البيئة السياسية والاجتماعية المحيطة بها، من دون ان تكف عن التزامها الصلاة في الكنيسة كل احد، كما انضمامها الى الحزب الشيوعي. اما شارد الذي علمته اللغة الفرنسية في المدرسة، واحبها رغم نزعته الوجودية وشكه الفلسفي وعدم ايمانه الا بالصدفة التي لم تخلق الكون فحسب، بل قررت مسارات الحياة وخيارات البشر وخياناتهم وهفواتهم.

عماد الامين كتب عن الجنس، لكنه في روايته يرفد الرواية العربية بالكتابة عن العائلة والعلاقات العائلية بكل تشعباتها وتفاصيلها، عن الزوج والزوجة والابن والاب والخيانات والهفوات، ربما هي المساحة المحرمة في النص الروائي العربي، وفي لبنان والجنوب تحديدا.

“ما معنى الحياة من دون تلك الهفوات الجميلة التي تأسر قلوبنا من حين الى آخر”، يقول الراوي على لسان احدى شخصياته. في رواية تضيء على مرحلة تاريخية، ستظل مفتوحة على القراءة والتحليل السياسي والاجتماعي، بسبب ما انطوت عليه من احداث سياسية كبرى، وتطورات اجتماعية واقتصادية، من مطلع الخمسينيات من القرن، حتى يوم اغتيال رئيس الجمهورية المنتخب بشير الجميل في ايلول ١٩٨٢.

تنتهي الرواية بأن تصير “الزانية” منى.. راهبة، والزانية وداد.. زوجة المسؤول العسكري. انتصرت الحرب على الجميع. انتصر “انعزال” منى و”تديّنها” على حياتها الدنيوية، فهجرت زوجها وعائلتها، وهجرت حبيبها. وانتصرت الحرب على وداد،التي انفصلت عن زوجها بعد ان “وزعت” أبناءها بين المهاجر والزواج والغربة، واختارت ان تكون مِلك “العسكر”.

كما لو انّ وداد هي لبنان، ومنى هي أحلامنا التي باتت “راهبة” تعيش في عالم الزنى والإثم، فيما العسكر يتحكم بوداد، التي تدور حياة أبطال الرواية كلهم حولها.

السابق
واشنطن تحث المجلس الوطني السوري على المشاركة في مؤتمر السلام
التالي
موقع اسرائيلي يرصد قائد أركان حزب الله