«النجف»: لا ولاية ثالثة للمالكي ولا قتال دعماً للأسد

يضحك السيد مقتدى الصدر من أعماقه وهو ينهض من كرسيه ليجلس بين صحافيين محسوبين على الوسط المدني في العراق، لغرض التقاط صورة تذكارية يقول: «انا الاسلامي بين علمانيين، إما ان اكسبكم للدين، او تكسبوني الى العلمانية!». الصدر لم يكن يلاطف ضيوفه فقط، بل ان الجدل والمراجعات والانتقادات وإعادة التقويم لدور التيارات الاسلامية في العراق ما بعد العام 2003 وقصور التواصل مع التيارات غير الدينية، وأسلوب ادارة الدولة والمخاطر الحقيقية التي وصلت اليها لا تكاد تفارق احاديث كبار رجال الدين في النجف، فهي تشكل هماً حقيقياً للمرجعية العليا التي يقودها آية الله السيد علي السيستاني، وشباب النجف الطامحين الى حياة مختلفة على حد سواء.

«الحياة» التي تجولت في ازقة النجف وشوارعها، ومدارسها الدينية العريقة، وحوزاتها التي تجمع الآلاف من الطلاب من شتى أنحاء العالم، سمعت مصطلح «الدولة المدنية» على كل لسان تقريباً، واستمعت الى آراء غير متوقعة حول الامن في العراق، وأسلوب التعامل مع السنّة وحفظ كرامتهم، وحول توجه شباب شيعة للقتال الى جانب النظام السوري، والعلاقة الملتبسة مع ايران.

 

الصدر: أقاتل وحيداً!

يعتذر الصدر مراراً لما يعتبره «تشاؤماً» في تقويمه للأحداث ولمجريات الامور في البلد، يشعر انه يقاتل وحيداً دفاعاً عن السلم الاجتماعي في العراق، ويصر على عدم السقوط في فخ تحويل الصراع العراقي الى صراع طائفي، لكنه لا يشعر بمساعدة حقيقية من الأطراف الأخرى في العراق.

يقول: «على رغم ما شهدته التظاهرات في المناطق السنّية من بعض التجاوزات، تمسكنا بموقفنا الداعم لتظلمات إخوتنا السنّة. دنت بألم ما حدث في الحويجة، وتصديت لكل محاولات تحويل تظاهرات السنّة الى مناسبة للحرب الطائفية ووقفت ضد محاولات تهجير السنّة من الجنوب، لكن لم ألمس من الطرف الآخر عوناً، على الاقل في إبداء مواقف صارمة ضد التفجيرات التي تطاول المناطق الشيعية، او في وضع حد للخطابات التأجيجية».

ليس هذا فقط، فالصدر الذي جوبه بانتقادات شيعية واسعة النطاق لمشاركته بجهود اقالة رئيس الوزراء نوري المالكي صيف 2012، واستمع من قائد فيلق القدس الايراني قاسم سليماني الى عبارة «ان ذهابكم الى اربيل لا يخدم الشيعة» التي قال انه رفضها بالمطلق، لتمسكه برفض اي تدخل في الشؤون العراقية، يقول ان «تلك المواقف لم تظهر عندما زار المالكي اربيل قبل شهور».

الصدر اعرب في المقابل عن رؤية مغايرة للخلطة التي يمكن ان تقود العراق في المستقبل، فهي خلطة لا تستثني احداً، ولا تهمّش احداً، كما ان المستقبل يتطلب انفتاحاً حقيقياً بين الاحزاب الدينية والتيارات المدنية والعلمانية. «نحن نقدّر كل العراقيين، ونسعى الى فتح حوارات تصحيحية واسعة وشجاعة من اجل مستقبل بلادنا». عند الحديث عن سليماني، لم يتردد الصدر في إبداء اعجابه بالرجل، فهو برأيه يقاتل من اجل بلاده، مخلصاً لها، «لكن ليس بالضرورة ان تتلاقى كل مصالح ايران مع المصالح العراقية».

يقول بشيء من الصرامة: «نحن مغضوب علينا اليوم… لأننا لا نتلقى اوامر وتعليمات من احد، والمصالح العراقية بالنسبة الينا خط احمر». لم تتداول الصحافة مواقف الصدر بشأن ازمة سورية على نطاق واسع سوى ان أتباعه رفعوا عام ٢٠١٢ أعلام الجيش السوري الحر تعاطفاً مع الثوار، والصدر يسجل ملاحظات كثيرة على بعض الجماعات المتشددة التي تقاتل الاسد، لكنه يقول من دون تردد: «انا مع الشعوب دوماً، وأبلغت طهران عام ٢٠٠٩ مثلاً بأنني قد انزل الى الشارع تأييداً للشباب الاصلاحي في التظاهرات، وتألمت حين قتلوا المتظاهرة ندى سلطاني» في الحادثة المعروفة اثناء احتجاجات الاقتراع الرئاسي في ايران.

ولأن الصدر لا يستطيع إخفاء تعاطفه مع اي نزوع ثوري ويتحدث بإعجاب عن «معجزة ٣٠ يونيو» المصرية، وعن قسوة الأسد مع شعبه، فإن أتباعه يشعرون بأن الذهاب الى القتال في سورية امر يمثل عصياناً لزعيمهم، ولذلك عاد احدهم من دمشق أخيراً وجاء معتذراً للصدر يقول له «سيدنا لقد عصيتكم».

 

نصائح السيستاني

ليس من خصوصية الخطاب الديني في النجف الحديث عن التحريم والتحليل في القضايا السياسية، وعلى رغم ان موقف المرجعية الشيعية العليا من توجه شباب شيعة للقتال في سورية لا يظهر بشكل فتاوى دينية، فإنه يظهر عبر روايات يشير اليها مقربون من المرجع السيستاني: «جاء احدهم لاستفتاء احد المراجع الاربعة في قضية توجه ابنه للقتال في سورية… فأجابه بلا تردد.. لا يذهب، ليس من المصلحة وليس فيه اصلاح».

السيد السيستاني الذي يغلق ابوابه منذ سنوات بوجه السياسيين العراقيين، يعبر عن رؤية واضحة يمكن تلمسها في خطب معتمديه في المدن، خصوصاً في كربلاء، حيث السيد احمد الصافي والشيخ عبد المهدي الكربلائي، يراجعان كل مفردات الخطبة مع مرجعية النجف قبل اعلانها»… وعبارة مثل «دولة مدنية» التي وردت على لسان معتمدي السيستاني يقول عنها السيد جواد الخوئي حفيد ابو القاسم الخوئي وهو احد اهم المراجع الشيعية: «انها مقصودة ومتبناة من المرجعية»، فـ «العراق» والحديث للخوئي: «بلد ثري بتنوعه الاجتماعي والتاريخي، وأسلوب حكمه يجب الا يكون خارج هذا الثراء المذهبي والقومي والفكري».

الخوئي رجل دين شاب شديد الذكاء والحصافة يتحدث وهو يقدم لضيوفه في منزل جده الذي اعتقل فيه عام 1991 على يد نظام صدام حسين، حلوى جلبت له من مدينة الناصرية: «على بعد امتار من هذا المكان مقر كبير للحزب الشيوعي العراقي. لم يتعرض احد له، بل ان النجف لن تكون نجفاً من دون هذا التنوع الفكري… فكيف بالعراق؟».

رجل الدين الشاب يكشف عن آمال عريضة يحملها مركز ثقافي كبير تشيّده مؤسسة الخوئي بالقرب من مرقد الإمام علي: «نحاول ان نلقي المزيد من الضوء على رؤية المرجعية التقليدية في النجف للآخر… نحاول ان نؤسس لحوار حضاري وفكري وديني ومذهبي في قلب النجف النابض… سنستضيف رجال دين من طوائف اسلامية من كل المذاهب وغير اسلامية لإلقاء محاضرات على طلبة الحوزة. سنفتح نقاشات بنّاءة. سنستضيف مفكرين ومثقفين مدنيين ويساريين للغرض نفسه… نؤمن بأن النجف يجب ان تتصدى لدور محوري في إحياء ثقافة التسامح».

لكن التسامح لا يبدو بضاعة رائجة في العراق هذه الايام. لا تشير طبول الحرب الاهلية الى ذلك في الاقل. مثل هذا الواقع يؤرق الخوئي الحفيد «لا تؤيد المرجعية اسلوب ادارة البلاد… حادثة الحويجة ادمت قلوبنا… انها استثمار دائم في الدم… نطمح الى دولة حديثة ومدنية يتساوى الجميع تحت سقفها… السيد السيستاني يرفض ان نقول ان السنّة إخوتنا، بل هم انفسنا، لا نرى اي مبرر لدفعهم للشعور بالظلم او التهميش، لا نرغب في الانزلاق الى الحلقات المفرغة».

 

شباب وأفندية

العائلات الدينية العريقة في العراق تنجب اجيالاً شابة برؤية مختلفة، ففي مقابل الخوئي الشاب الذي يحرص على ارتداء العمامة السوداء والزي التقليدي ويواظب على حلقات الحوزة كطريق طويل يقود الى مراتب الاجتهاد، يطمح احمد الصدر ابن أخي مقتدى الصدر، وأحد المؤثرين في تياره الى اكمال الدراسات العليا في العلوم السياسية، بعد ان حصل على بكالوريوس العلوم السياسية من الجامعة اللبنانية.

الصدر الشاب الذي يرتدي بدلة رمادية انيقة لا يرى ان المستقبل العراقي يمكن ان يقوم على حكم ديكتاتوري او على حكم طائفة او حزب او تيار… «العراق حصة الجميع»… هكذا يردد وهو يقدم ملاحظات بارعة عن شخصيات سياسية التقاها، وأخرى خاض حوارات معها، وعن طبيعة الحكم وآلياته.

افندية النجف، خصوصاً شبابهم يمتلكون آمالاً عريضة لمدينتهم، هذا ما بدا واضحاً في مجموعة من الشباب الانيقين الذين رافقوا «الحياة» في جولة في شوارع المدينة. شارع «الروان» يزخر بشبان وشابات يتجولون مساءً او يرتادون المطاعم والكازينوات… المحال التجارية تعرض صور اعلانات لأزياء نسائية ورجالية حديثة، وأخرى تعرض احدث الاجهزة الكهربائية والرياضية، وثالثة تقدم البيتزا، والفطائر، والعصائر.

لا يبدو المشهد مختلفاً كثيراً عن مركز تجاري في اي مدينة عصرية منظمة ونظيفة، سوى ان النساء يرتدين الحجاب، ولكنهن انيقات في مظهرهن.

وعلى غير عادة معظم المدن العراقية، يتجول تجار ومهندسون وعمال اجانب من جنسيات مختلفة بعضها غربية في شوارع المدينة. لا يحتاجون الى الحماية، ولا يثيرون فضول السكان.

«لم تعد النجف بلدة عتيقة على حدود مقبرة مترامية الاطراف تتسع بلا هوادة فتبتلع الصحراء» وهو واقع يقول عنه محافظ النجف عدنان الزرفي انه يعبر عن شعور أبناء النجف ان احترام مكانة مدينتهم الروحية لا يعني الا تتحول الى مدينة حديثة تتماشى مع متغيرات العصر.

يتحدث الزرفي الذي انفصل عن «حزب الدعوة» وشكل تياراً مستقلاً باسم «الوفاء للنجف» فاز بانتخابات الحكومة المحلية الاخيرة: «الحداثة هي التي فازت… الشباب الذين يشكلون عماد كتلتنا الانتخابية وضعوا الاحزاب التقليدية امام حقيقة مغايرة… هنا شعب يريد ان يتماشى مع روح العصر، من دون التنازل عن قيمه الروحية».

ويكمل: «عندما انفصلت عن حزب الدعوة كنت قد قرأت مبكراً ان الاحزاب التقليدية لم تفهم بصورة عميقة تطلعات الشباب، ارادت ان تسجنهم في تلك الروح العتيقة عن النضال وحزب البعث وصدام حسين، فيما ان بعض الشباب الذين قادوا حملتي الانتخابية كانت أعمارهم وقت سقوط صدام حسين لا تتجاوز 10 سنوات… انهم جيل مختلف تماماً، لا يفهم الماضي كما نفهمه، وليس اسيراً له».

لم يجرؤ احد في بغداد على ازالة صور انتشرت اخيراً لقيادات ايرانية مثل المرشد الحالي آية الله علي خامنئي او السابق آية الله الخميني.. بل إن مطالبة نائب بإزالة تلك الصور كانت مدعاة لاشتباكات بالأيدي داخل البرلمان العراقي، وتحذيرات شديدة اللهجة لمن يتعرض لصور «رموز المذهب» قادها زعيم «التحالف الوطني» ابراهيم الجعفري. لكن النجف التي ترفع لوحات ارشادية للزوار الايرانيين باللغة الفارسية، ليس في شوارعها صور لزعماء ايرانيين، الزرفي الذي اعتقل في التسعينات من القرن الماضي لرفعه صورة خميني في منزله يقول: «ليس بالصور يتم كسب تعاطف العراقيين».

لكن محافظ النجف الذي دافع عن مهرجان بثت فيه اغانٍ بمناسبة تخرج طلاب إعداديات النجف يقول: «لا جدوى من انكار الواقع… شبابنا يسمعون اغاني حديثة ويتواصلون عبر «الفايسبوك» و «تويتر» ويشاهدون افلام هوليوود ويحبون نجوم الفن والرياضة، هل نحجر على عقولهم؟».

حادثة اكثر دلالة عن طبيعة علاقة النجف بإيران عكسها غضب تناقلته اوساط السيستاني من تزوير وسائل الإعلام الايرانية حديثاً دار بينه وبين وزير الخارجية الايراني محمد جواد ظريف اخيراً. فظريف نقل عن السيستاني تمجيده خامنئي، ومديحه لظريف نفسه، وهو امر يمس صميم سلوك المرجعية وتقاليدها التي تحتفظ بمسافة ثابتة مع نظرية حكم «ولاية الفقيه» في ايران، هي المسافة ذاتها التي سمحت للسيستاني بالمطالبة بـ «دولة مدنية» في العراق.

 

السيد الارهابي

لقب «الموسوي» يقترن بكلمة «السيد» التي تحمل بعداً تبجيلياً دينياً، ومع هذا، فإن سيد قاسم الموسوي او «قاسم الاعور» الذي يسكن احد الأحياء على اطراف المدينة تبين انه من ابرز الارهابيين المرتبطين بتنظيم «القاعدة» وهو ومجموعة من رفاقه ينقلون مقابل المال سيارات مفخخة لتفجيرها بالزوار، وينفذون اعمال قتل وتفخيخ. يقول الزرفي الذي شغل في السنوات الماضية منصب رئيس مديرية الاستخبارات في وزارة الداخلية العراقية قبل ان يصبح محافظاً للنجف: «كشفنا عصابة الموسوي بعد ان رصدنا مكالمة لها صادرة من حي نجفي معروف وبعد تدقيق المعلومات توصلنا الى المنزل الذي صدرت منه المكالمة، واكتشفنا خلال التحقيق ان قاسم وعصابته يرتبطون بتنظيم القاعدة ونفذوا الكثير من العمليات ضد المدينة». ويضيف: «هذا نموذج واحد فقط، لكن هناك الكثير من النماذج المشابهة»… يكمل: «تحقيق الامن لا يتم عبر القوة فقط، بل انه قبل ذلك يرتبط باعتبارات اجتماعية وسياسية واقتصادية. عندما كنت أشغل منصبي في استخبارات الداخلية كانت مصادري الاساسية من اناس عاديين وشخصيات عشائرية ودينية ترغب بتحقيق الاستقرار، وهؤلاء لم يكن في امكانهم التقدم بمعلوماتهم لولا انهم كانوا متأكدين من ان تبليغاتهم ستكون بأيدٍ أمينة ولن تتعرض الى اختراق».

النجف برأي سكانها وعمائمها وشيوخها تقع في دائرة المدن العراقية الاكثر امناً، وتلك وفق الزرفي نتيجة لجهود امنية كبيرة بذلت ليكون الناس هم مصدر المعلومة، والزرفي يلوم القوى الامنية العراقية في باقي مدن العراق وفي بغداد «انها سمحت باهتزاز ثقة السكان بها».

 

النجف والفلوجة

احاديث الصدر والخوئي ورجال دين مقربين من السيستاني وزعماء سياسيين ومواطنين، كانت تصب في صالح فلسفة الجغرافيا والتاريخ : «طهران ليست اكثر قرباً من الفلوجة»… «الأسد ليس اكثر اهمية من دم شعبه»… «المحيط العربي امتداد وعمق لا يضاهيه اي عمق آخر»… «لا استئثار شيعياً في حكم العراق… تداول السلطة والتعاون عليها اكثر حكمة من حصرها بيد شخص»… و «لا ولاية ثالثة للمالكي». في التفاصيل هناك ما يقال علناً وهناك ما يدور في الاروقة، ما يشكل مدخلاً لأسئلة عدة… «هل تلقى رجل الدين السنّي عبد السعدي دعوة لزيارة مرجعية النجف ولم يلبها؟»… «هل سيضغط السيستاني لتنفيذ مشروع مصالحة حقيقية يطفئ الفتنة في العراق؟»… «هل سيكون له موقف من آليات تشكيل الحكومة المقبلة؟»… «لماذا لم يلب بارزاني دعوة الصدر لزيارة النجف؟»… «هل تقدم واشنطن ولندن دعوات غير مشروطة للصدر لزيارتها؟» وأخيراً «هل ستبادر الدول والمنظمات ووسائل الإعلام والشخصيات الدينية العربية الى فتح ابواب الحوار والاتصال مع النجف على الاقل لفهم كيف تفكر مدينة العمائم والأفندية؟».

السابق
الحياة: تفاؤل باطلاق مخطوفي أعزاز قريبا
التالي
الشرق الأوسط: بوتين يرغب باستمرار تعاون نظام الأسد في نزع الكيماوي