طارق شهاب: الأمير الإشتراكيّ

طارق شهاب

الامير طارق شهاب ابن حاصبيا البار الذي نتحلق اليوم حوله، اهلاً ورفاقاً واصدقاء. هو من احب الشخصيات الى قلوبنا لانه اذا غاب عن ناظرينا حضر في وجداننا، واذا انوجد بيننا ملاْ المجلس حبوراً وسماحة وتفكراً. ولا غرو، فهو من الشخصيات البارزة في حياتنا الوطنية والسياسية. لعب، ولا يزال، دورا بناء في صياغة التوجهات السياسية، وتحديد الاولويات الوطنية وبناء العلاقات الناجحة على المستوى العربي كما الدولي، ممثلا وجه لبنان المضىء الحريص على مصلحة اشقائه واصدقائه حرصه على مصالحه الذاتية. وتميز المير طارق بالتزام عميق راسخ
بالقضية الوطنية القومية الانسانية مقرونا بدماثة الخلق، وحسن المقاربة وجلاء النظرة، فبات في مواقفه رمزا للملتزم الذي يجذب الناس الى مداره، عكس الملتزم الذي يتوارى ايمانه تحت وطأة التعصب والاستئثار ونزعات الاقصاء والالغاء
فيتحول الى عبء يسحب من رصيد يدعي صونه والاضافة اليه.

فالمير يقول للناس عبر تهذيبه وصدقيته واخلاصه ان الايمان لا يلتقي بالتعصب  كما لا يلتقي الدين بالطائفية، معبرا في الوقت نفسه عن روح الجنوب في وداعتها وصلابتها، في عمقها واتساعها، مؤكدا ان هذه الروح هي المؤهلة لتحرير البلاد من الاحتلال، وترسيخ وحدتها، وتطوير نظامها الديموقراطي وهي كلها اهداف مترابطة
لا ينفصل واحدها عن الاخر.

وفي غمرة الحديث عن فكر وتوجهات المحتفى به لا يجوز اغفال النواحي الاخرى في شخصيته. فقد لعب الشهابي العريق والاشتراكي الرفيق، ولا يزال، دوراً مهما على الصعيد الميداني ولاسيما على صعيد الجنوب ومشاركة اهله كفاحهم التاريخي المتواصل. هوالذي ساهم كمحام ومناضل سياسي في بناء المداميك الاولى للمقاومة
الوطنية اللبنانية والحفاظ على الوحدة الداخلية والنضال من اجل المطالب الاجتماعية والتربوية والانمائية تحت مظلة الحزب الاشتراكي والحركة الوطنية، فتبوأ اعلى المواقع في كلا المؤسستين نظرا للثقة العارمة التي اولاها اياه
رفاقه وابناء شعبه، لا سيما القائد الشهيد كمال جنبلاط الذي كان يعتمده في المهمات الخارجية الحساسة ويتكل عليه في الكثير من المعارك الوطنية الداخلية دفاعا عن المقاومة الفلسطينية، واستنهاضا للحركة الشعبية ودعما للنضال الشعبي اللبناني بوجه كارتل الاحتكار المالي والاقطاع السياسي.

هنا لا بد من القول في هذه الايام العصيبة التي نعيشها ان هذا الكارتل الذي، كان ولا يزال، يسيطر على موارد البلاد ويتحكم بمؤسساتها المتعددة ويتفنن في افسادها  اصبح اليوم مرتبكا في ادارة شؤون البلاد حتى وصل به الامر الى
التسليم بالفراغ والفوضى والعجز عن تشكيل حكومة  تلبي حاجات المجتمع وتتعامل بكفاءة مع التطورات والمتغيرات الحادة والخطيرة من حولنا. وفي الوقت الذي يطل فيه   هذا الكارتل على الناس مذكرا  بمساهماته ممننا بتضحياته، يتجاهل انها لا تقاس اطلاقا بالارباح والمكاسب التي يجنيها من جهدالعاملين والكادحين والاساتذة والمعلمين والمستخدمين  والموظفين وسائر ابناء الطبقات الشعبية.

ولقد اتيحت لي سابقا فرصة العمل مع المير طارق شهاب في مجالات العمل الوطني خصوصا على مستوى الجنوب فوجدت معدنه اصيلا، واخلاقه رفيعة، ونفسه كريمة، وسمعته عطرة. فالمير طيب المعشر، مقبل على خير العمل، قريب من القلب، زاهد في الدنيا ومتاعها، عصي على التملق والغرور، هادىء محب لاخوانه، قوي متزن بوجه
الانواء والنوائب، ما تراجع الا ليتقدم وما تقدم الا واثق الخطوة متحفزا لتحمل المسؤولية مهما كانت التضحيات، فالرجل المثقف الوقور يعرف ما عليه ويدرك ان الحياة موقف جرىء وحازم لا بل هي سلسلة مواقف طليعية وحاسمة يستلهم فيها الانسان مصلحة الجماعة والخير العام.

ومن موقعه في الحزب التقدمي انصرف المير لبثّ الوعي الشتراكي والدعوة للمساواة واعتماد معايير الكفاءة والاستحقاق بديلا من مفاهيم المحسوبية والاستزلام التي نخرت الادارة وجعلت المواطنين رعايا مهمشين لدى امراء الطوائف ودوائرهم التي تترى وتتناسل لتشكل عنكبوتا يأسر المؤسسات ويمنع الدولة من النهوض، لتزدهر او بالاحرى لتتورم الامارات العابرة، والمربعات الامنية، والدويلات السقيمة، وكل اشكال التنظيم الاجتماعي التي كانت قائمة قبل قيام الدولة.

ومن موقعه في قلعة حاصبيا، منارة الجنوب وحصنه، انفصل الامير النبيل عن واقعه الارستقراطي الذي سئمه وملّ ممارسات اركانه، واختار الالتحاق بشعبه الطيب الصامد بوجه العدوان الصهيوني والرازح تحت نير الاقطاع والتخلف، فكان ذلك افضل قراراته على الاطلاق.

وبعد هزيمة حزيران 1967 التي ادمت القلوب، وحركت النفوس، واججت المشاعر ضد الانظمة المتخاذلة، واشعلت روح المقاومة ضد اسرائيل، وبعد الاعتداء الاجرامي على مطار بيروت وابادة اسطول طيران الشرق الاوسط، وايقانا” منا ان المسالة تتعلق بفلسطين مثلما تتعلق بلبنان وكل قطر عربي اصبحت المواجهه مع اسرائيل تحتل المرتبة الاولى لدى جيلنا، لاسيما وقد شهدنا بام العين سقوط معادلات سياسية طالما تباهى النظام اللبناني بها، فضلا عن  انهيار حمايات اجنبية طالما استند اليها النظام للتنصل من مسؤولياته حيال الجنوب والجيش والسيادة.

وفي هذا الاطار تركز العمل النضالي في الجنوب حيث كان الخطر الاكبر والالم الاشد وسط ظروف صعبة للغاية. وفي هذا المسار وضع المير طارق نفسه في خدمة الناس مستلهما مصلحتهم، متحسسا الظلم الكبير الواقع عليهم، متفاعلاً الى ابعد الحدود مع المقاومة الفلسطينية من موقعه الرفيع في صفوف الحركة الوطنية مساهما باقصى طاقاته في تحسين اداء المؤسستين على الارض وتجاه الاهالي  الذين قدموا الشهداء دفاعا عن فلسطين ولبنان وفي طليعتهم الشهداء خليل عز الدين الجمل ابن بيروت المجاهد، وحسين علي قاسم  صالح ابن كفرشوبا التي هدمها العدوثلاث مرات، والاخضر العربي ابن بنت جبيل ام الشهداء، ثم ال شرف الدين، علي وفلاح وعبدالله ابطال الطيبة، وعبد الامير حلاوي اسد كفركلا.

وفي تلك الاثناء اصبح بيت طارق شهاب في حاصبيا محجة للمناضلين يلقون فيه العون والمشورة ونقطة انطلاق للعمل النضالي، ومنارة تعيد للقلعة دورها والقها التاريخي. وفي تلك الفترة كان لي الشرف ان اعمل معه في عدة مجالات من بينها المؤتمر الوطني لدعم الجنوب والبقاع الغربي الذي ترأس لجنته التنفيذية، والتي كانت تضم الينا المحامي المناضل خليل بركات، والاستاذ نقولا الفرزلي، والراحل العزيز رفيق بلعة ، والاخوة الدكتور حسن الشريف، وهاني فاخوري، والمحامي موسى كلاس، والمحامي طلال شرارة والاخ سليم شاتيلا وعددا من الاخوان.

وقد كان المير طارق يهتم من خلال المؤتمر وسواه بدعم الجنوب والتنبيه الى خصوصياته ومعاناته لافتا النظر في كل كتاباته وكلماته الى ضرورة تعزيز صمود الجنوب واهله لتمكينهما من مواجهة عدو شرس مطبوع على العدوان في ظل مناخ عربي سلبي يدفن راسه في رمال الصحراء. ولم يكتفِ المير بالدعوة والنضال السياسي بل نزل الى ارض الواقع يعمر مع اخوانه الملاجىء في كفركلا وتولين وحاصبيا وكامد اللوز وصور ويشارك في اشادة المدارس في الصوانة وعين قنيا، ويفتح القنوات، ويبني الجدران في غير قرية وموقع، محتضنا مع المؤتمر والقوى المشاركة فيه الطلاب وكل عمل نضالي في الجنوب وصولا الى دعم المقاومة والمشاركة في اطلاق انتفاضة مزارعي التبغ المباركة والاعتصام  لتاريخي الذي قام به المزارعون والمناضلون في مبنى الريجي في النبطية حيث سقط شهداء ابرار وارتفع علم لبنان
الوطني بوجه علم النظام المراهن على خوف المواطنين وارهاب العدو الصهيوني.

انها علامة  من جملة علامات مضيئة من تاريخ هذا الرجل المتمسك بوطنيته المخلص لعروبته، المؤمن بقضيته، الساهر على القدس، المصمم على استعادة فلسطين وكل حبة من ترابها.

وبعد…

فخر لنا ان نتحدث عنه وعن بعض عطاءاته وتضحياته وانجازاته وقد اصبح رمزاً كبيراً من رموز الصمود والمقاومة في الجنوب ولبنان وعلى امتداد الحلم العربي.

لقد نفحته الامارة بعض ارثها لكنه بالمقابل زيّن هامتها بضفيرة من غار، إذ انزلها الى حقول العمل والعطاء والزمها الالتحام بقضايا البلد فاثرى بموقفه عائلته والامارة وحزبه وحركته الوطنية.

وبعد..

نحييك ايها الاخ العزيز ونحي معك عائلتك ورفيقة دربك التي لا ننسى فضلها، سائلين الله تعالى ان يمد بعمرك وتبقى، كما تعودت، بخدمة اهلك وبلدك والامة العربية جمعاء.

السابق
حاجتنا الى الاستعمار
التالي
شيلي الهمّ عن صدرك.. اللبناني والسوري