الجميّل: حزب الله اليوم كسوريا 1988

 بعد اقل من ستة اشهر تدخل البلاد، 25 آذار 2014، في المهلة الدستورية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية التي تنتهي في 25 أيار، موعد نهاية ولاية الرئيس ميشال سليمان. في الاشهر القليلة التي تسبق الاستحقاق لا حكومة. في احسن الاحوال حكومة تصريف اعمال يرأسها الرئيس نجيب ميقاتي قد تنتقل اليها صلاحيات رئيس الجمهورية اذا تعذّر انتخاب الرئيس الخلف في المهلة الدستورية. الى جانبها، رئيس مكلف تأليف الحكومة هو الرئيس تمام سلام يواجه صعوبات، من غير ان يجد اسبابا تحمله على الاعتذار عن المضي في مهمته، وفي الوقت نفسه يقرّ بأن الصعوبات تلك التي تتسبّب بها الشروط المتبادلة والمتناقضة بين قوى 8 و14 آذار لا توحي بأن التأليف وشيك. الى ذلك كله، يصر سليمان على عدم ابقاء البلاد في عهدة حكومة الفريق الواحد عند مغادرته السلطة. هكذا يجد لبنان نفسه في حال مثالية كي يستعيد تجربة فراغ رئاسي ادركه لـ26 سنة خلت، عام 1988 في الاشهر القليلة، حتى الساعات القليلة التي سبقت انتهاء ولاية الرئيس امين الجميّل.

لم يكن الفراغ الرئاسي الثاني عام 2007 اقل اقتداء بالسابقة. غادر الرئيس اميل لحود منصبه في ظل تعذر اجتماع مجلس النواب لانتخاب خلف له، فانتقلت صلاحياته الدستورية الى حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وكانت تمثّل حكومة الفريق الواحد، قوى 14 آذار، بعدما استقال منها الوزراء الشيعة الخمسة. فاذا هي خلو من تمثيل طائفة رئيسية فيها. كانت تلك المرة الأولى في ظل الدستور المنبثق من اتفاق الطائف التي تشغر فيها الرئاسة وتخلف الرئيس في صلاحياته الحكومة القائمة، وان مطعون في شرعيتها التمثيلية والميثاقية. مع الجميّل، كانت المرة الثانية بعد عام 1952 التي تتولى فيها حكومة انتقالية يصير الى تأليفها استثنائيا صلاحيات الرئيس بعد استقالته، لكنها المرة الاولى التي تعبر فيها البلاد انتخابات الرئاسة عام 1988 ولا تبصر رئيسا جديدا للجمهورية.
ما اشبه اليوم وغدا القريب بالبارحة!
اوشك الجميّل على مغادرة منصبه في 22 ايلول 1988 وسط انقسام سياسي بازاء حكومة كان يرأسها الرئيس رشيد كرامي حتى اغتياله في الاول من حزيران 1987، فلم تسقط بغيابه، بل عوّمها اتفاق سياسي قبلته دمشق على مضض، ثم استغلته بفجاجة عندما سحب الرئيس سليم الحص ـ وكان وزيرا في تلك الحكومة ــ استقالتها التي تقدّم بها رئيسها الراحل «الى الشعب اللبناني» لا الى رئيس الجمهورية عملا بالاصول المتبعة. صار الى تعويم حكومة العشرة حينذاك لمنع الجميّل من تأليف حكومة اخرى، ومن اجل مواكبة السنة الاخيرة من ولايته. ظلت حكومة الوكيل عن اصيل متوف تتخبط في جدل دستوري وسياسي حتى أزفت نهاية العهد، من غير ان يجتمع مجلس الوزراء او يلتقي رئيسها رئيس الجمهورية. اخفق الجميّل في تأليف حكومة سياسية تغطي المرحلة الانتقالية تذهب اليها صلاحياته لتعذر انتخاب خلف له، وسط اصرار الحص والوزراء المسلمين في حكومته على انهم يمثلون الشرعية الدستورية التي تنتقل اليها صلاحيات الرئيس متى شغر المنصب. اصدر الجميل مرسوم تأليف حكومة جديدة في الربع الساعة الاخير برئاسة قائد الجيش العماد ميشال عون وعضوية اعضاء المجلس العسكري الخمسة الباقين. علم الضباط الوزراء المسلمون الثلاثة باستقالاتهم من الحكومة العسكرية عبر التلفزيون، من غير ان يتقدموا بها خطيا حينذاك ولا في ما بعد تحت وطأة قرار دمشق وضع السلطة الاجرائية (صلاحيات الرئيس ومجلس الوزراء) في عهدة حكومة الحص. اختبر لبنان آنذاك لاول مرة، في آن واحد، شغورا مزدوجا: لا رئيس للدولة، ولا سلطة اجرائية موحدة.
على ابواب استحقاق 2014 تعود اللوحة نفسها، لكن اكثر تعقيدا واستعصاءً بسبب افتقار رئيس الجمهورية، عملا بالصلاحية المقيِّدة له في تأليف الحكومة، الى مبادرة كان الدستور السابق يتيحها له: لا يستطيع الرئيس، ولا الرئيس المكلف، اصدار مراسيم تأليف حكومة من دون موافقة مسبقة من الاطراف. بعض وزراء حكومة تصريف الاعمال يهددون برفض تسليم حقائبهم الى وزراء يخلفونهم في حكومة جديدة، ما يضع البلاد مجددا امام امتحان حكومتي تصريف اعمال، إحداهما بحقائب والاخرى من دونها. مجلس النواب لا يجتمع لاستحالة توافقه على رئيس جديد بالنصاب الموصوف (86 نائباً). قد يغادر الرئيس الحالي منصبه قبل ان يتمكن من تأمين مَن يخلفه فيه، فتمسي البلاد في شغور، وصلاحياته ضائعة بين حكومتين على غرار حكومتي 1988. لا يريد سليمان ترك الرئاسة بين يدي حكومة الفريق الواحد، او في احسن الاحوال ليست موضع توافق الاطراف المعنيين، كما فعل الجميل قبل اكثر من عقدين، فاذا المشكلة مضاعفة. سقطت الى غير رجعة، لاسباب دستورية وسياسية معا، الحكومة الانتقالية واختبار المجلس العسكري في الحكم، وهو بالكاد بنصف اعضائه.
كأن شيئا لم يتغيّر مذ ذاك سوى بعض الوجوه. حتى اولئك الباقون لم ينزلوا عن خشبة المسرح. بعد اكثر من عقدين تعود الازمة الدستورية الى الصفر.
ماذا يعني ذلك للجميّل، وكيف يقارب تجربته بما قد ينتظر سليمان؟
يقول: «الضغوط الداخلية والخارجية على الرئاسة هي نفسها. كان اطرافها بيروت الشرقية وبيروت الغربية والمحاور الاقليمية، اضافة الى البعد الاسرائيلي حينذاك الذي يبدو الآن ـ على الاقل ظاهريا ـ غير موجود، لكنه كان يضغط على ولايتي. مع ذلك حافظنا على البلد ونظامه ودوره ورسالته. منذ بدأ البعد الخارجي للمشكلة اللبنانية يسيطر عليها، ويطغى على البعد الداخلي، أخذ القلق على الكيان والمصير يساورنا. الواضح اننا في مرحلة تفتقر الى وعي المسؤولية الوطنية والولاء للوطن. في ما مضى ابان ولايتي، في احلك الظروف، كانت حكومة الرئيس كرامي، ومن بعدها حكومة الرئيس الحص، تتوجه الى المراجع الدولية والامم المتحدة خصوصا بموقف وطني واحد، كان يفاجىء بعض المسؤولين الدوليين الذين اعتقدوا بان خيط الاتصال والتواصل بين اللبنانيين انقطع تماما. كانوا يتلقون من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ووزير الخارجية رسائل تتكلم لغة واحدة، وموقفا واحدا، ومقاربة واحدة. لم يعد لذلك، ويا للاسف، وجود اليوم. وهذا ما يقلقني».
يضيف: «الصعوبات التي واجهتها ووصفت في حينه بأسوأ النعوت وشتى الاوصاف، تبيّن في ما بعد انها كانت مصطنعة ومفروضة علينا لغايات انكشفت عندما وضعت سوريا يدها على لبنان حتى عام 2005، وامسكت به بيد من حديد. تلك الضغوط التي كانت تمارس على عهدي، بالوسائل نفسها تستخدمها سوريا، يلجأ اليها اليوم حزب الله الذي فرض منطقه بكل الوسائل المتاحة، وسائل غير مشروعة دائما. فاذا هي تفوق قدراتنا الذاتية وتعمل لاهداف استراتيجية لا علاقة للبنان بها. رغم كل الجهود التي يبذلها الرئيس سليمان ـــ وانا ادرى الناس بالمعطيات الرئاسية ـــ لن يكون من السهل اختراق هذا الجدار المرفوع في وجهه».
ماذا يسع رئيس الجمهورية ان يفعل؟
يقول الرئيس السابق: «اخشى استمرار الوضع المعقد، وبقاء الحكومة الحالية في موقعها ما دام دستور الطائف قد صادر من رئيس الجمهورية الصلاحيات الضرورية لتنفيذ قسمه الدستوري، وهو مؤتمن على الدستور وعلى المصلحة الوطنية العليا للدولة. وقد حُرم الآن ما يمكّنه من تحقيق هذا الهدف. انا خائف على الرئاسة، وفي الوقت نفسه مقتنع بانه لا بد من ان يعي القادة اللبنانيون في اللحظة الاخيرة مصلحة بلدهم، وينقذوا الوطن من الخراب الذي لن يوفر احدا. لدي حدس يدفعني اكثر نحو هذا التوجه، والامل في حلّ اللحظات الاخيرة. وانطلاقا من تجربتي وتواصلي مع الخارج، لدي اقتناع بان القوى التي تصب الزيت على نار الازمة اللبنانية اليوم، ستدرك ان مصلحتها في ان يعود لبنان الى استقراره ودوره».
وهل يتوقع عودة السجالين الدستوري والسياسي على نصاب انتخاب الرئيس والتلويح بانتخاب بالنصف +1، لاحظ الجميّل انه «حصل تلاعب بالدستور في الآونة الاخيرة، وعلى نحو مصطنع. المشترع الذي وضع الدستور على هذا النحو، كان مقتنعا بالمحافظة على رمزية موقع رئاسة الجمهورية، ما يقتضي ان يُنتخَب رئيس الدولة باكثرية مميزة وموصوفة. من هنا ضرورة انتخابه بثلثي اعضاء مجلس النواب. كل خروج على هذا المنطق يؤسس لأزمة ولصراعات وطنية لا تحمد عقباها».
يقول ايضا إن قوى 14 آذار بدأت الخوض في الاستحقاق الرئاسي و«تنطلق في مقاربتها من مسلّمة وحدة مكوناتها، وتجاوز هذا الامر الى الانفتاح على اوسع تحالف ممكن ابعد من قوى 14 آذار، وعدم الانغلاق على نفسها».

السابق
الاكتشافات النفطية سبب الحرص الدولي على الاستقرار؟
التالي
إيران وتركيا والسعودية وإسرائيل: نظام إقليمي مُركّب