ايران تتغير لكي لا تتغير

العالم كله إلتقط أنفاسه بعدما تبدّدت إحتمالات “الضربة” الأميركية. العالم كله كان يضرب أخماساً بأسْداس، متحسّباً، متموّناً، عائداً الى مناخات الطوارىء نصف المنسية؛ أكان “معها”، تلك الضربة، أو “ضدها”. والتحضيرات الهوليودية التي أخرجتنا لبرهة من سُبات يومياتنا الدموية… هل كان يمكن تفادي نشوة الرعب منها؟
ثم فجأة خرج علينا “المنقذ” فلاديمير بوتين بأرنب الإتفاق على نزع الكيماوي السوري. ولم نكد نلتقط أنفاسنا حتى برز ساحر آخر، كنا نيسناه في خضم أفلام الرعب من يومياتنا. حسن روحاني في نيويورك، ثم وزير خارجيته، وإتفاق مع الكبار ومكالمات وسلامات ومقابلات وكلمات الطرب… حسن روحاني، بطل المشهد بلا منافس. وقضية بلاده معه، هكذا حضرا، وكأن إنذارات “الضربة” لم تكن سوى نكتة سمجة، أرهقت أعصابنا، غرضها الخفي تصعيد إيران إلى بطولة الدور، بل إزاحة، ولو مؤقتة، لدور حليفها وميسِّر أمورها فلاديمير بوتين. ومرماه الظاهر، أو الاتفاق الذي خلص اليه حتى الآن، يبشر بالمزيد من البطولة الإيرانية في المشهد الشرق أوسطي هذا. الإيرانيون يريدون أن ينفتحوا على الغرب برأس مرتفع، رأسمالهم سيطرتهم على القرار في دول تمتد من أفغانستان وحتى لبنان، مقابل أن يرفع هذا الغرب قبعته تحيةً وإحتراماً لهذه القوة التي سوف يجيز لها ان تتقوى بخبراتها النووية السلمية وبدخولها في دائرة الإقتصاد العالمي، خروجاً مظفراً من العقوبات والعزلة، وسنوات “محاربة الشيطان الأكبر”. بهذه المعادلة الجوهرية صعد الإيرانيون على المسرح الدولي، مثيرين غيرة إسرائيلية نافرة، عجّلت من هرولة نتانياهو الى زيارة أوباما ليقول له بأن الإيرانيين غير صادقين، لن يتغيروا، تذكروا خاتمي… ولا تصدقوا إستنكاره للمحرقة اليهودية… الخ.
إذا، فلندقِّق بالمشهدين المتتاليين: السوري أولاً، ثم الإيراني الذي غلبه. سلاحان “استراتيجيان” يملكانهما، أنظر كيف يتصرف به كل منهما. الأول، السوري، خلاص… سلم نهائياً، ووقع الإتفاق وسبل تنفيذه وها هو اليوم يستقبل طليعة المفتشين. المهم ان السوري سوف يماطل طبعاً، لكنه “سلكَ” بسلاحه الكيماوي، من دون مقابل واحد غير بقاء نظامه البعثي. أما الإيراني، فهو ليس مستعداً حتى الآن إلا للبحث المطوّل في شروط التفتيش عن سلاحه. هي شروط قاسية… صحيح، ولكن لها ما يوازنها باليد الإيرانية: لها سيطرة إيران على بلدان تمتد من افغانستان وحتى لبنان، مروراً بسوريا والعراق.
إيران هنا حبكت مصلحة قومية بأخرى سلطوية يخص نظامها. أما في الخارج، فوجدت بلدان لها ثغرات وطنية، وبنت فيها مجالات نفوذ، يأتمر أهلها وقادتها بأمرها وإرشاداتها وفتاويها وتوجهاتها المعادية كلها لأميركا. أي انها تملك ما يمكنّها على مزيد من التمكين. تجاه من؟ تجاهنا، نحن شعوب وحكام المنطقة. وبهذا لعبتها إيران على أذكى الوجوه. إخترعت مصالحها من مادة أولية هي هواننا وتهافتنا وانقساماتنا. اخترعتها، هذه المصالح، وعرفت كيف تشغلها وتثمرها وتغرف منها ما شاءت من معالم القوة الإقليمية.
إيران علمت مصلحتها، تماماً مثل الاميركيين. وهذا ليس عيبا فيها، إنما من ضرورات الصراع بين الامم. والعبقرية الإيرانية طويلة الباع في الإدارة والحضارة، تدرك ربما أكثر من غيرها، ان عليها أن تتغير لكي لا تتغير. والعبارة مستعارة من الإيطالي غوزيب دي لمبدوزا، في رائعته الوحيدة “الفهد”. وقد حفظ له التاريخ تلك العبارة: “إذا أردنا أن تبقى الأشياء كما هي، فعلينا تغيير كل شيء”.
تلك هي مصلحتها؛ أما أن تكون مادة صراعها هو نحن، أبناء لبنان وسوريا وفلسطين والعراق… نكون وقوده، وعن طيب خاطر، بحماسة و”مقاومة” “وممانعة”… هذا ما يجعلها قابضة على مصيرنا، تتنافس مع اسرائيل، “عدوّتها”، على تقريره.

السابق
زورق اسرائيلي خرق المياه الاقليمية
التالي
أسامة سعد استقبل وفدا من منظمة نورفاك