الأشقياء الثلاثة: سوريا، لبنان والعراق

I ـ موجز لا بد منه
لم تبلغ سوريا بعد عتبة «البحث عن حل». أفق الصراع مفتوح. «الحل الكيميائي» قطع الطريق أمام حرب غير مرغوب فيها من قبل القادرين عليها. المروجون لها والعاجزون عن خوض معاركها، خسروا جولة، يعوضونها بزيادة دعم وتسليح المعارضة. الحسم المفترض سقط. النظام باق، والمعارضة المسلحة مستمرة، والسجال الدامي لا يتوقف، بل تزداد قسوته.
«الحل الكيميائي» سمح للديبلوماسية النشطة غربياً، بأن تعيد صوغ لغة جديدة ومقاربات معقولة، لبدء عملية «البحث عن حل» في «جنيف 2». لا حسابات دقيقة بعد، التفاؤل خجول جداً، الأمل مشكوك فيه، فالوقائع الميدانية لم تنتج بعد فروقات حاسمة، بين النظام الذي يتقدم ولا ينتصر، والمعارضة التي تخسر ولا تنهزم. المعارك لها القول الفصل في التمهيد للحل. لم يولد في الحرب الدائرة في سوريا ميزان قوى جديد. ما يخسره النظام في منطقة أو في معركة، يعوّض عنه بكسب في مناطق رخوة ورجراجة. كذلك المعارضة. تكسب حيث يخسر النظام في مناطق نائية عن مركزه. لم تتغير المعادلة بعد. المعارضة تسيطر على 60 في المئة من الأرض السورية، فيما يسيطر النظام على 40 في المئة من الأرض التي تضم 60 في المئة من السكان. حساب القتلى والمهجرين والنازحين، اختصاص الهيئات الإنسانية الدولية، حتى الآن.
مقدمات البحث عن حل لم يجر الاتفاق عليها بعد، ويصعب ذلك راهناً. العقدة الأساس تكمن في ما يلي: المعارضة تصرّ على ان لا حل بوجود الرئيس بشار الأسد، والنظام يصر من جهته على أن مصير الرئيس، تقرره صناديق الاقتراع في منتصف العام القادم. ما بين البداية هذه ومحاولات رسم خريطة طريق «للمرحلة الانتقالية»، ستسيل دماء سورية كثيرة، وستحدث مفاجآت كارثية، قد تجعل سوريا، بلداً لحراسة الخراب وإعادة تدمير المدمّر مراراً. ليست هذه المرة الأولى التي يمتد فيها الصراع، بكل مآسيه، وتعجز المعارك العسكرية عن إنهائه، ويقصر العالم عن إنجاز التسوية فيه. الصومال نموذجاً، السودان كذلك، قبل وبعد انفصال الجنوب. افغانستان مراراً. ولبنان ظل أسير العنف خمسة عشر عاماً، ولم يصل إلى التسوية، إلا بعد انهيار الجميع في الداخل واتفاق «الجميع» في الخارج.
بعيدة سوريا عن الحل. لا تزال تعيش المعادلة التالية: «لا حل عسكرياً، ولا حل سلمياً». وفي حالة النفيين تلك، المؤكد الوحيد هو التالي: رعاية الحرب من الخارج، ومنع سقوط النظام، مقابل منع سحق المعارضة. محور النظام لن يدعه يسقط عسكرياً، ولكنه لن يتيح له الانتصار، لعجزه عن ذلك. محور المعارضة، لن يدع المعارضة المسلحة لُقْمَةً سائغة في فك الآلة العسكرية للنظام، ولن يتيح لها الانتصار، لعجزها عن ذلك أيضاً. التعادل السلبي هو النتيجة المنطقية لعامين ونصف العام من القتال، أسفرت فقط، عن «حل كيميائي»، لم تربحه المعارضة، إذ جاء لمصلحة إسرائيل فقط. أما استعماله في الداخل، فبات ممتنعاً وإعادة استعماله، يستدعي حرباً تستتبع حروباً، وهذا مستبعد.

II فرضيات ممكنة
قد تفضي «الميدانيات» الديبلوماسية، في فترة ما بعد «الحل الكيميائي» إلى إنضاج خريطة طريق مفترضة، يلتزم الأقوياء في كلا المعسكرين، بإجراء الضغوطات الواجبة، على الحواضن الإقليمية لطرفي النزاع، وعلى القوى المسلحة المتصارعة، داخل سوريا، لتحقيق الأرضية الهادئة عسكرياً، وتسهيل المفاوضات الماراتونية.
هذه الفرضية تفترض ميدانياً ما يلي:
أولاً: وقف إطلاق النار.
ثانياً: بقاء كل فريق في مواقعه.
ثالثاً: وقف تسليح وتدعيم الطرفين.
رابعاً: تأمين سلامة الهيئات الطبية ومنظمات المساعدات الإنسانية.
خامساً: عودة النازحين إلى ديارهم، وحفظ أمن العائدين.
سادساً: إخراج التكفيريين من المعادلة، وهذا وحده يتطلب جهوداً لا يمكن التنبؤ بنتائجها، لطبيعة هذه القوى وانتشارها وتطرفها والدعم الهائل الذي تتلقاه من دول هيئات ومنظمات تؤيدها في قتالها وفي انتشارها وفي استدامتها.
ومع ذلك، تبقى تلك الفرضيات الميدانية واجبة، ويبقى البحث عن إمكانية تطبيقها ضرورياً، وإلا فإن البديل سيكون أسوأ مما هي سوريا عليه الآن: إقامة مملكة الخراب التي يحكمها أمراء التدمير والركام.
لا جدوى من العمل في تأمين «الحاضنة الأمنية» للحل السياسي، إذا لم يقترن ذلك بعدد من الفرضيات السياسية، التي تشكل ميناء ترسو عليه الأزمة السورية.
فتهدئة الحالة العسكرية تسير جنباً إلى جنب مع البحث الجدي بما يلي:
أولاً: إقامة نظام سياسي لا يلغي أحداً.
ثانياً: إقناع الجميع، في الداخل والخارج، بأن حصته في النظام، ليست بالضرورة على قياس طموحه أو على قياس قوته وحجمه العسكري الميداني.
ثالثاً: تشكيل حكومة انتقالية، تمثل الجميع، بصلاحيات موقتة، تتثبت في ما بعد عبر الاستفتاء على الدستور الجديد.
رابعاً: إجراء انتخابات نيابية ورئاسية وفق الدستور الجديد.
خامساً: إخراج القوات المسلحة والأمنية من الميدان السياسي وإخضاعها للسلطات المدنية.
هذه الفرضيات تبدو غير مؤهلة للنجاح، لأن كل واحدة منها، تفترض تعديلاً في موازين القوى، أو، ضغوطاً هائلة، أو إنهاكا للأطراف مجتمعة، فلا يبقى قوي أو أقوياء، بل يؤدي ذلك الى ظهور الإعياء على القوى المتحاربة فتطلق نداء استغاثة: «أنقذونا». إن بلوغ تهدئة أمنية أو هدنة عسكرية أو مفاوضات فصل قوات أو تبادل مواقع أو سواها، أسهل بكثير من العبور داخل حقل ألغام الحل السياسي المفترض، والذي لن يكون إلا حلاً على علاته.
سوريا لم تكن الأولى في هذا الميدان، ولن تكون الأخيرة.

III لبنان أولاً
النزاعات اللبنانية، السابقة على تشكل لبنان الحديث، تلقي أضواء على أصناف التسويات الكثيرة، التي تمت تجربتها، قبل أن ترسو صيغة الكيان بحدوده المثبتة في إعلان دولة لبنان الكبير العام 1920، وقبل ان تصبح «الصيغة» اللبنانية مرجعية لـ«ميثاق وطني» رجراج، ونظام سياسي يتقلّب بين مرجعية النص الدستوري من جهة ومرجعية «النص الميثاقي» من جهة أخرى، مع أرجحية الثاني على الأول، على عكس الأنظمة الديموقراطية الدستورية، حيث لا سقف فوق سقف الدستور.
العودة إلى التجارب اللبنانية، أو تجارب القوى والجماعات فيه، تفيد في تلمس الحروف الأولى التي ستصاغ بها التسوية السورية، إذا قيض لها ان تبدأ بقراءتها والتقيد بها، اختصاراً لحقب وعقود.
نوجز: لبنان ليس جزيرة. هو متصل، لا ينفصل عن محيطه، اتصاله حيوي من جهة، ومدمر من جهة. إن اتصل عاش، وإن انفصل تنازع، وإن كان اتصاله بمحيط معافى ازدهر، وإن كان محيطه مريضاً أصيب بانقسام. فهو يشبه مشرقه، بنية واجتماعاً وعلاقات. هويته مشكلة له. خصوصيته تؤكد انفصال بعضه عن محيطه ورغبة باتصال بمن وراء البحار. تلك مشكلة الأقليات في «دول» تفرض هوية سلطتها على شعوبها. وهي في أحيان كثيرة هوية دينية أو عرقية أو طائفية أو عائلية.
لبنان هذا، مذ بدأت «المسألة الشرقية»، كان جزءاً منها. ولبنان هذا، آنذاك، ما كان دولة ولا كياناً. كان حالة في جغرافيا غير مستقرة. جبل بلا ساحل، بلا مدن، بلا بقاع، بلا… ولكنه كان فكرة محمولة من أقلية مسيحية في محيطها.
مثل هذا التوزع، لا التنوع، يوّلد نزاعاً تليه نزاعات، ولا يشهد التاريخ في المشرق نزاعات محلية لم تكن شديدة الاتصال بالقوى الخارجية. وعليه، دخل لبنان في الفتنة مراراً، ولا نجد فتنة لم يكن وقودُها لبنانيين، وقادتها من خارج لبنان. ولقد انعكست الصراعات بين الدول الكبرى آنذاك، على صراعات الصغار في لبنان، وتحديداً في مرحلة ما قبل الكيان.
ولد لبنان من قلب هذا المخاض، ومن رحم أكبر حرب كونية. عرف في حروبه الداخلية، حلولا لم يكن فيها لأبنائه، لا ناقة ولا جمل. نظام الإمارة الشهير، وما عرفه من حروب وفتن ومعارك، كان بحاجة إلى حماية، تستجلب الأعداء إلى جانب الحماة. محمد علي باشا وابنه ابراهيم باشا، احمد باشا الجزار، نابليون بونابرت، لندن، باريس، الباب العالي، القياصرة، الأباطرة… كلهم كانوا هنا، عبر ممثليهم، يسمعون، يقررون، يرفضون ويبرمون، الحلول بمعزل عن الأهالي.
نظام القائمقاميتين نجح في تقسيم اللبنانيين أكثر، وأضفى على الوضع صفة دولية. لم تعد المسألة اللبنانية في اربعينيات القرن التاسع عشر، تخص اللبنانيين. مصيرهم يتقرر من دونهم. موافقتهم ملزمة وتتم بالإملاء. الدول الخمس التي دعيت لبحث مصير جبل لبنان، انقسمت بين مطلب عثماني يعيد سلطة السلطنة إلى الجبل وبين مطلب فرنسي يعيد الإمارة الشهابية المسيحية. ميترنيخ النمساوي ابتدع الحل الوسط، وقضى بتقسيم الجبل بين المسيحيين والدروز. تم الاتفاق على التقسيم. كان الحل بالتجزئة الجغرافية والسكانية، وتجزئة السلطة بالطبع. لم تلجم سلطة القائمقاميتين العنف الطائفي، فدخل لبنان في فتنة الستين، التي شهدت مذابح متبادلة، بين الدروز والموارنة. وثم انتقلت إلى دمشق بين المسلمين والمسيحيين. مذابح الستين في القرن التاسع عشر أنتجت صيغة جديدة لجبل لبنان، نظام متصرفية، بإمرة مسيحي من السلطنة يعينه الباب العالي، ومجلس إدارة يضم ممثلي الطوائف، فيما الجندرمة، من الأهالي، إنما بلباس فرنساوي. وكان لكل قنصلية من قناصل «الدول الكبرى» آنذاك، حق التدخل ووضع «الفيتو». فرنسا ضد بريطانيا، أي الموارنة في مواجهة الدروز. وترجمة ذلك، صراع بين النفوذ الفرنسي في المنطقة والنفوذ البريطاني، بانتظار سقوط التفاحة العثمانية بعد نضجها في يدي واحد من الطرفين أو الاثنين معاً. وعلى هامش هاتين الدولتين، روسيا التي تتطلع إلى «قداس الأرثوذكس» الدافئ، والنمسا المتربصة لدور شبيه بدور مترنيخ. أما الباب العالي، فيكتفي بإرضاء الجميع، شرط الحفاظ على ما تبقى من سلطة السلطنة في جبل لبنان.
من هذا المخاض، ولد لبنان، فكان من حصة الطوائف، مع أرجحية مسيحية. على الكيان أنشئ دستور ونظام، وعملية ضم الأطراف (الأقضية الأربعة) لم تحصل طوعاً. التحق السنة بلبنان قسراً وطمعاً. انفصلوا عن دمشق لقاء حصة. لبنان كيان بحصتين: واحدة للمسلمين وأخرى للموارنة. لبنان غير قابل للتقسيم ولكنه قابل للاقتسام. حصل ذلك إبان الانتداب وبعده. الاستقلال كان مزدوجا: واحداً عن دمشق وآخر عن فرنسا. والولاء ظل لاثنين: واحد للعرب وآخر للغرب.
تلك كانت المادة الصلبة لبناء دولة لبنان الرخو بنظامها السياسي المقفل والمختنق. بعد الحروب الأهلية أو الحروب الداخلية، تولد عصبيات سياسية لا يمكن حذفها أو التغاضي عنها. إشباع العصبيات يتم عبر الاعتراف بها وبحقها في تقرير مصيرها الخاص، داخل المصائر الأخرى، التي، إذا التأمت، اهتمت بالمصير الوطني، وإذا تنازعت أخذت الوطن إلى المصير المجهول. كما حدث مراراً.

السابق
خارجية أميركا: شلل الميزانية لن يؤثر على المساعدات للمعارضة السورية
التالي
حرب مشاريع وحقوق