لا أحبُّ الحزبية بالمعنى أدناه

الحزبيَّة، بما هي انتظامٌ في سلك جماعة سياسية، وخضوعٌ لتراتبيَّة الأمر والنهي فيها، على قاعدة “السَّمْع والطاعة” (وإنْ زُيِّنت هذه القاعدة بلَغْوِ الديموقراطية)، وبما هي نظرة تمييزية امتيازية إلى الذات الحزبية في علاقتها مع الآخر ومع الحقيقة.. تلك الحزبية، على نحو ما كان معمولاً بها في بلادنا ولمَّا يزل، لا أذكر أني مِلْتُ إليها أو عاقرتُها يوماً. وهذا الموقف الاستنكافي يبدو لي أنه انطلق بداية من “مزاج” تكويني.. ثم، بعد وعي مكتَسَب، استقرَّ على “رأي” كان من شأنه أن أعاد إنتاج المزاج ذاته وعزَّزه، أو فاقمه، حتى صار عُضالاً.

أما لناحية الموقف “المزاجي” – التكويني، فأردُّه إلى ما أشترك فيه مع كثيرين من أمثالي، باعتبار أن هناك مَنْ هو قابلٌ للانتظام الحزبي (لما لديه من تطلُّع إلى الإمرة والوجاهة – وهذا ليس عيباً – أو لما فيه من استعداد للمطاوعة والتكيُّف والقَوْلَبة والامتثال وسائر الأسماء الحُسنى للمرونة).. وهنالك مَنْ هو غير قابل لذلك، حتى لو دسَّ في جَيْبه بطاقةً حزبية أو زيَّن ياقته بالزرّ المعلوم. وهذا التفريق بين الصنفين لا أسوقُه على سبيل المفاضلة أو حُكم القيمة، وإنما هو مجرَّد تقرير وصْفيّ.

وأما لناحية الموقف المبنيّ على وعي مكتسب، جرَّاء المعاينة والتحصيل المعرفي والتفكُّر والاستنتاج، فأكثر ما يهمّني وأتأبَّاه هو تلك النظرة إلى الذات (الأنا) الحزبية في علاقتها مع الآخر المختلف ومع “فرضيَّة” الحقيقة. فالذات الحزبية الشائعة الذائعة عندنا هي ذات مسوَّرة بجدار سميك، ليس بينها وبين الآخر المختلف (أكان فرداً، أو حزباً آخر، أو وسطاً اجتماعياً تُقيم فيه وتستوطن) إلا ما يمايز ويُفاضِل ويفصل ويُباعِد. ثمة فارق حاسم وقطعيّ بين الداخل والخارج، الأنا والآخر: عالمان أكثر من مختلفين.. مَنْ ليس منَّا فهو.. ماذا؟ – المنطق وسُنَّةُ الخلق يقولان: إنه آخر، مختلف، مُغاير. ولكن الذهنية الحزبية – وأعني تلك الشائعة الذائعة في بلادنا – لا ترتاح إلى مثل هذا التصنيف – التعريف؛ إذْ سرعان ما تميل نفسياً وعملياً (أو تَعَاملياً) إلى اعتبار هذا الآخر عدواً. وعليه يغدو الجواب عن السؤال أعلاه: “مَنْ ليس منَّا فهو علينا!”.

ذهنيّة متوحشة إنَّ هذه الذهنية بدائيَّةٌ متوحشة. فالبدائيُّ المتوحِّش نظر أوَّلَ ما نظر، فرأى حوله ما يشبهه ويُطابقه فاطمأنَّ إليه.. ثم رأى ما يختلف عنه ويُغايره، من إنسان أو حيوان، فتوجَّس منه خيفةً وبادره القتالَ الوجوديّ. وقد احتاج هذا الإنسان البدائي المتوحّش إلى مدة طويلة من الدهر – لا يعلمها إلا الله والراسخون في علم الانثروبولوجيا – كي يميّز بين الاختلاف والخلاف، المغايرة والعداوة. فإذا انتقلنا في الزمن، بسرعة فلكية، من أوَّل الدهر إلى أيامنا هذه، سنجد بيئاتنا الحزبية لا تطمئنُّ إلا لذاتها، ما قد يسوّغ القول بأنها بدائيةٌ متوحّشة.

أجملُ ما اختبرتهُ في حياتي (بمعنى النمط العلائقي داخل جماعة سياسية في نظرتها إلى الذات وإلى الآخر المختلف) اثنان: حركة “فتح” و”المؤتمر الدائم للحوار اللبناني”. الحدُّ الفاصل بين الداخل والخارج، الذات والآخر المختلف، غير قاطع، وغير “مرسَّم” بالخوازيق التي تضعها الأمم المتحدة لتعيين الحدود بين كيانات الدول. إذا دخل عليك آخر مختلف، وأنت في جلسة مع “جماعتك”، فإن دخوله هذا لا يغيّر شيئاً جوهرياً في مجرى الحديث.. هذا فضلاً عن أن إمكان الدخول بحدّ ذاته يعني الشيء الكثير. ما من أحدٍ يرمي “المؤتمر الدائم” بالحزبية. ولكنْ قد يُقال لك إن “فتح” هي بالواقع حزبٌ أو نمط من الحزبية السياسية. وهذا ما أضمره صديقي أبو كريم (عتيقٌ في حركة القوميين العرب وحزب العمل) حين قال لي يوماً: إني لأعجب من استمرارك في حركة “فتح” حتى الآن ومنذ أربعين سنة! قلت: وجدتُ فيها باباً للدخول ولم أجد حتى الآن باباً للخروج. قال: دعني من تفلسفك هذا وفسِّر لي! قلت: دخلتُ بناءً على قَسَم الإخلاص لفلسطين (“أقسمُ بالله وبشرفي أن أكون مخلصاً لفلسطين، عاملاً على تحريرها”) ولم أعْدِلْ عن ذلك. قال: وهل هذا يكفي لدخول “فتح” تحديداً والاستمرار فيها تحديداً؟! قلت: لم أجد في سواها ما يجسّد حركة الشعب الفلسطيني الوطنية أكثر مما يجسّد حزبيةً معيَّنة داخل هذا الشعب. قال: وماذا عن التزام التراتبية والأوامر والتعليمات واللوائح وما إلى ذلك من مستلزمات الانضواء التنظيمي؟ قلت: لا أذكر أني أقسمتُ على ذلك، كما لا أذكر أني عاقرتُه. قال: قصتك معقَّدة! قلت: لا حول ولا قوة إلا بالله… أما صديقي الآخر، أبو جبران (شيوعي عتيق، وقائد بين الفلاحين، ومن مؤسّسي “المؤتمر الدائم للحوار اللبناني”) فقد أسرَّ لي يوماً بالقول: “أصبحتُ على قناعة بأن فكرة الحوار الدائم بين مختلفين جديرة بأن تشكل منهجاً سياسياً ودليلَ عمل ونمطاً علائقياً شديد الاحترام”، أو ما يعادل هذا الكلام.

المسألة كلّها

على أي حال فإن ما تقدَّم لم يتناول إلا جانباً واحداً هو النظرة الحزبية إلى الذات وإلى الآخر المختلف. أما نظرة هذه الذات الحزبية إلى “الحقيقة” فهي المسألة، كل المسألة. تعتقد الأحزاب في بلادنا – لا سيما تلك القائمة على أيديولوجيا دينية أو حتى علمانية – أنها تمتلك “الحقيقة” أولاً، وأن ملكيتها هذه هي ملكية “حصرية” ثانياً. وهنا يحضر بقوة “حديث الفرقة الناجية”: “تفترق أمتي من بعدي على (كذا) وسبعين فرقةً: واحدةٌ ناجية، والباقي إلى النار”. ومع أن كبار المحقّقين المسلمين متفقون على أن هذا الحديث مدخول على الرسول الأكرم، وأنَّ فيه تدليساً، إلا أن كل الفِرَق الإسلامية عملت بموجبه: أنا الفرقة الناجية، والباقي إلى النار! وهذا هو أصل “التكفير” المستشري في بلادنا، قديماً وحديثاً. ولا نظننَّ أن الأمر قاصرٌ على فرق سنيَّة، بل إن الفرق الشيعية تبزّها في هذا لمجال وتلقي في وجهها “سبع بحصات”. كذلك فإن كل حزب من أحزابنا الشيوعية يعمل بموجب “حديث الفرقة الناجية” هذا. فإذا انتقلنا إلى أحزابنا الطائفية الفئوية الحصرية يغدو الأمر أكثر هزالاً ومَسْخَرة! وفي هذا المجال، مجال الحق والحقيقة، يقول الإمام الشافعي: “قولي صوابٌ يحتمل الخطأ، والقول الآخر خطأ يحتمل الصواب… والحكم للعقل والحجَّة والبيّنة”. وحتى الحجة لا تكفي للحكم القطعيّ النهائي، بل ينبغي العودة إلى القلب والضمير بحيطةٍ وتقوى، على ما دعا النبي(ص) بقوله: “ربما يكون أحدُكم أَلْحَنَ لحجَّته (أي أكثر فصاحة وقدرةً على تزيين قضيته) فأحكم له….”. هذا وقد أعجبني كثيراً قول البابا بنديكتوس السادس عشر في إرشاده الرسولي حول السلام في الشرق الأوسط: “إن الحقيقة خارج الله غير موجودة بحدّ ذاتها، لأنها تُصبح صنماً. فالحقيقة لا تنمو إلا في العلاقة مع الآخر… لذا ليس جائزاً التأكيد بصورة قطعية: أنا أملك الحقيقة! ليست الحقيقة ملكاً لأحد. (….) يمكن معرفة الحقيقة وعيشها فقط في الحُرّية. لهذا لا يمكن الإجبار على الحقيقة، إنما في لقاء المحبة فقط يمكن سَبْرُ أغوارها”. والحال أن الذين يزعمون ملكية حصرية للحقيقة إنما يعبدون أصناماً من تمر، سرعان ما يأكلونها عندما يجوعون.. فتأمَّل!

السابق
عنصرية الممانعين ضد النازحين
التالي
تفاصيل مثيرة في حياة الأرملة البيضاء