الطائف في ذكراه: تنفيذ غير أمين وبلا رعاة

في البدايات، وبالإضافة إلى النواب الذين توافقوا على هذا “الطائف”، أيّدته قوى سياسية وأخرى عارضته، ومن ثم خرج لاحقاً عليه بعض مؤيّديه ليعارضوه، وفي الوقت نفسه أيّده بعض من عارضه، والمسلسل مستمر، إذ ترتفع أصوات الغالبيّة داعية الى استكمال تطبيقه، تُوازيها اصوات اخرى تدعو الى تعديل الدستور الذي انبثق منه، وثالثة تقول إنه “مات” وإنّ البلاد باتت تحتاج الى “طائف جديد”، اي الى صيغة جديدة تُعيد توزيع السلطة بين المكونات اللبنانية السياسية والطائفية والمذهبية.

والواقع أنّ هذا الاتفاق الذي أنهى حرباً أهلية و”حروب آخرين” على الارض اللبنانية دامت اكثر من 17 عاماً، كان نتاج توافق لبناني – لبناني ولبناني – سوري وسوري – سعودي وعربي – عربي وعربي- دولي. وفي المحصلة كان ثمرة توافق لبناني – عربي – دولي، بحيث أنّ كل المصالح الداخلية والعربية والدولية تلاقت على وقف الحرب اللبنانية التي كانت بلغت مرحلة تُهدّد بتفتيت لبنان وتطاول شظاياها المنطقة، إذ بعدما كانت تدور بين فريقين، تحوّلت حروباً ضمن التحالف الواحد وصولاً الى حروب ضمن الحزب الواحد والطائفة الواحدة والمذهب الواحد…

واليوم، وبعد 24 عاماً على إقراره، يبدو “اتفاق الطائف” مأزوماً، وأحياناً مورداً للخلاف بفعل التفسيرات المتناقضة لنصوصه المُدَسترة، وذهاب البعض الى إلقاء اللوم عليه في الخلافات التي تنشأ من حين الى آخر بين القوى السياسية، وغالباً ما تحسمه دعوات الى “تطبيقه نصاً وروحاً” تارة، و”استكمال تطبيقه” طوراً، علماً أنّ كثيراً من المتابعين يؤكدون أنّ العلّة ليست في النصوص إنما في النفوس التي غالباً ما تذهب الى تفسير “الطائف” حسب المصالح والاهواء بما يحرفه عن أهدافه ومراميه الحقيقية.

فـ”الطائف” الذي نقل السلطة التنفيذية من يد رئيس الجمهورية ليجعلها سلطة جامعة تتجسَّد بمجلس الوزراء بما يُحقّق مشاركة كل المكونات اللبنانية في القرار، قضى بأن تكون كل الحكومات بعده حكومات وحدة وطنية، وإذا تألّفت غالبية هذه الحكومات على هذا النحو بغالبيتها منذ العام 1992، ما خلا بعض الاختراقات اليتيمة، فإنّ البعض حتى ممّن “يعتنقونه” ينبري أحياناً الى المطالبة بـ “حكومات حيادية” او “تكنوقراط” او ما شابه، على رغم إدراكه أنها تخالف “الطائف” خلافاً للمطالبة باستكمال تطبيقه، علماً أنّ الممارسة في عهد حكومات الوحدة الوطنية لم تكن أمينة أحياناً للنصوص، بحيث تنحى الى منطق الاستئثار بالسلطة التنفيذية التي لا يمكن حصرها بشخص رئيس الحكومة، ولا بفريق واحد داخل مجلس الوزراء، ولذلك لا تقتصر الاخطاء الواقعة على فريق بعينه.

والى ذلك، فإنّ المقومات الاساسية التي تمكن من التنفيذ الامين لـ”الطائف”، لم تتوافر كلياً بعد، حتى يُحقق دولة المؤسسات التي يعد بها. فلم يقرّ منذ العام 1992 قانون الانتخاب الذي يؤمّن صحة التمثيل وعدالته حسب “الطائف”، بما ينشىء حياة سياسية جديدة في البلاد، وقد جاءت كل القوانين التي أقرّت حتى الآن مفصّلة على قياس مصالح القوى السياسية والطائفية، والفضيحة الكبرى كانت العودة الى قانون 1960 النافذ بعدما أجريت انتخابات 2009 على اساسه، والذي يخالف “الطائف” باعتماد الدوائر الصغرى (القضاء وما دون) بدلاً من الدوائر الكبرى، (المحافظة وما فوق)، او الذهاب الى لبنان الدائرة الانتخابية، كخيار افضل.

على أنّ كثيراً من السياسيين المخضرمين يؤكدون أنّ قانون 1960 كان من احد اسباب الحرب اللبنانية التي اندلعت عام 1975، وقد سمّاه الرئيس سليم الحص يوماً بأنه “قانون القضاء على الوطن”، نظراً لاعتماده الاقضية دوائر انتخابية بما يقلص حجم التمثيل ويقوقعه، بدلا من ان يكون موسعاً ليكون النائب ممثلاً أكبر شريحة ممكنة من الشعب بكل طوائفه ومذاهبه ومشاربه السياسية.

ولأنّ البلاد لم تحظَ بعد بقانون الانتخاب الذي نادى به “الطائف”، يستمرّ الخلل في التمثيل، ما ينعكس خللاً في المؤسسات الدستورية الأخرى، ومنها مجلس الوزراء الذي لا تؤلَّف حكومة إلّا ويدور جدل طويل عريض على الاحجام التمثيلية فيه،من مثل ما هو حاصل اليوم حيث مضت اشهر ولم تؤلف الحكومة الجديدة بعد.

وكذلك يدور جدل حول الصلاحيات في المجلس نفسه، إذ عندما يطرح موضوع إقرار نظام داخليّ لمجلس الوزراء تقوم القيامة ولا تقعد، منذ حكومة الرئيس عمر كرامي الأولى وحتى اليوم، علماً أنّ نظاماً لهذا المجلس أقرّ بمرسوم قبل سنوات ولكنّه لم ينفّذ، وعلى سبيل المثال مَنصب نائب رئيس مجلس الوزراء الذي لم يُلحَظ له دستوريّاً إن في إمكانه ممارسة صلاحيات رئيس المجلس كاملة في حال غيابه، كذلك لم حتى بمكتب خاص في مقرّ رئاسة مجلس الوزراء.

ناهيك عن أنّ “الطائف” الذي يقول بأن يكون لمجلس الوزراء مقرّ خاص يجتمع فيه اسبوعيّاً وكلّما دعت الحاجة، كونه مؤسّسة في حدّ ذاتها منفصلة عن مؤسّسة رئاسة الحكومة، قد أُلغِي مقره المحدث في المتحف بذرائع الأمن منذ سنوات، وما زال حتى اليوم، وفي ذلك مخالفة أخرى لـ”الطائف” والدستور.

وإلى ذلك، لم تتّخذ أيّ خطوات جدّية في اتجاه إلغاء الطائفية السياسية المنصوص عنها في المادة 95 من الدستور، على رغم الرسالة الشهيرة للرئيس الراحل الياس الهراوي إلى مجلس النواب لتأليف الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية التي تضع البرامج لتحقيق هذا الإلغاء “وفق خطة مرحلية”، وعلى رغم محاولات رئيس مجلس النواب المتكرّرة لم تحصل أيّ خطوة عملية في هذا الاتجاه، إذ ووجِهت هذه المحاولات بدعوات الى “إزالة الطائفية من النفوس قبل النصوص”.

قبل ان تدخل البلاد في اوضاع عمَّقت الطائفية والمذهبية، وباتت مهدّدة بفتنة مدمّرة نتيجة تداعيات الأزمة السورية القائمة، والأجواء المذهبية المحمومة التي تشهدها المنطقة. وبات كثير من السياسيّين يتوسّلون الطائفية والمذهبية سبيلاً لتأييد وجودهم في مواقعهم داخل السلطة وخارجها، لأنّ التجارة في هذا المجال تبدو لهم تجارة رابحة، بدلاً من “تجارة الخدمات” التي يتوسّلون من خلالها أصوات الناخبين في كلّ استحقاق انتخابي.

أمّا اللامركزية المنصوص عنها في “الطائف”، فلا تزال أيضاً حبراً على ورق، على رغم محاولات كثيرة، ما أخّر تحقيق الإنماء المتوازن، وتقريب الدولة بمؤسّساتها من كلّ المناطق اللبنانية، فلا مجالس أقضية انتُخبت ولا المحافظات التي أُحدِثت في بعلبك – الهرمل وعكّار تمأسَست إدارياً وفعلياً، حتى إنّ الحكومات لم تُعيّن محافظين لهذه المحافظات حتى الآن والسبب معلوم ومجهول.

لقد تعرّض “الطائف” ولا يزال لانتهاكات يوميّة لدى مختلف القوى السياسية والذين يحرفون الكلام عن مواضعه، خصوصاً عندما أثاروا ولا زالوا يثيرون موضوع “المثالثة” التي ينصّ عليها هذا الاتفاق، فالمقصود بها “مثالثة” في المناصب الرسمية والمواقع الإدارية بين الطوائف الكبرى الثلاث المارونية والشيعية والسنيّة، بحيث تكون حصّة كلّ من هذه الطوائف بمقدار حصة الأخرى لا اكثر ولا أقلّ، لكنّ بعض القوى السياسية اضفى على هذه المثالثة معاني سياسية تذهب الى حدود اتّهام هذه الطوائف، بالاستئثار والهيمنة على البلد بمعزل عن بقية الطوائف، بل ذهب هذا البعض الى حدّ تحريض طوائف ضد أخرى، واتّهام قوى سياسية بسوء التفسير للنيل منهم سياسياً داخل صفوفهم وفي شوارعهم.

وبالإضافة الى كلّ ذلك، فإنّ كثيرين يطرحون أسئلة ولا يزالون: هل ما زال “الطائف” صيغة صالحة للبلاد على مستوى حكمها وإدارتها بعد كلّ ما شهده من انتهاكات واختراقات ومخالفات؟

سياسيّ مخضرم يقول إنّ هذا “الطائف” لم ينفّذ تنفيذاً أميناً حتى يمكن الحكم عليه، ما إذا كان ما زال صالحاً للبلد أم لا، وأنّ ما نُفّذ منه يشبهه ولا يطابقه بالتمام والكمال، فهو كما قال كثير من السياسيين ليس إنجيلاً ولا قرآناً لا يمكن تعديله، ولكن كيف يمكن إجراء هذا التعديل طالما لم ينطبق ما نُفّذ منه على حرفية النصوص. وحتى في موضوع إلغاء الطائفية لم تسجّل للطبقة السياسية ممارسة ترسي ثقافة تساعد على الخروج من هذه الطائفية.

في خلال سنوات خلت كان هناك راعٍ، بل رعاة اقليميون لتنفيذ الطائف، اما اليوم فإن اللبنانيين باتوا اما خيارين: إما ايجاد راع جديد لإستكمال تنفيذ هذا الاتفاق، وإما عليهم ايجاد آلية داخلية لهذا الغرض. وبالطبع ان آلية كهذه تستوجب وحدة وطنية حقيقية يبقى الأمل بتحقيقها دائم ومستمر.

السابق
الجربا يصرخ في «برية» الأمم المتحدة.. وكيري يتجاهله
التالي
كلام في السياسة السعوديّون ليسوا أغبياء