حملة الضغط مستمرة لتشكيل حكومة بمعايير داخلية بحتة. في المقابل، تستمر المفاوضات الإقليمية لإنضاج تسويات ستكون الحكومة اللبنانية أحد تجلياتها
مرة جديدة لم تنعقد أمس الهيئة العامة لمجلس النواب، ولا يرجّح أن تنعقد مرة جديدة ما ظل الخلاف مستحكماً بين الرافضين والمؤيدين لانعقادها في الشكل والمضمون اللذين يتمسك بهما الرئيس نبيه بري. لكنّ ثمة سؤالاً أبعد من جدول الأعمال، ومن النزاع على المشاريع المطروحة: إذا كان المجلس الممدّد له لم يتمكن من الاجتماع بنصاب عادي وبجدول أعمال عادي، فكيف يمكن أن يجتمع بعد ستة أشهر من الآن لانتخاب رئيس للجمهورية بنصاب الثلثين؟
من المبكر الإجابة عن السؤال، كما هو مبكر الكلام عن انتخابات رئاسة الجمهورية. لكن يبدو أن الوسط السياسي مستعجل لفتح هذا الملف وبدء غربلة الأسماء المرشحة، بقدر ما هو متمهّل في تأليف الحكومة. والحديث عن قدرة المجلس النيابي على الاجتماع، حتى لطرح الثقة على الحكومة العتيدة، إنما يدخل ضمن هذا الإطار، لأن تأليف الحكومة أولاً وانتخاب رئيس للجمهورية ثانياً معلقان على آفاق التسوية الخارجية التي تسمح بهذا المسار الدستوري الطبيعي. والمشكلة المزمنة تكمن في استعجال اللبنانيين الوصول إلى استنتاجات سريعة ومبكرة في توقعات الحرب، كما في مسار المفاوضات في المنطقة، لرسم صورة أولية عن ماهية التسوية التي ستلحظ لبنان، وتسمح تالياً بتشكيل حكومة وانتخاب الرئيس العتيد.
والاستعجال بدا أخيراً في حملة الضغط المضادة التي بدأت تتحدث عن مخاض جديد لتأليف الحكومة بعد عودة رئيس الجمهورية من نيويورك، بعدما خرجت الى الضوء معلومات عن تعثر التأليف قبل أسبوع.
ومع أن الحكومة مطلب أساسي وضروري بعدما دخل لبنان مرحلة سياسية وأمنية صعبة، إلا أن الواقع يدل على أن شيئاً لم يتغير، حتى تتبدل المعادلات المطروحة للتأليف. فلبنان ينتظر جملة مواعيد ضاغطة تتعدى أزمته الداخلية بتشكيل حكومة، ليس لقاء الرئيس الاميركي باراك أوباما والرئيس ميشال سليمان أحدها. وهو يترقب تبلور نتيجة المفاوضات الاميركية الروسية في شأن سوريا، والاهم نتيجة الاتصالات الاميركية الإيرانية وما يمكن أن تتركه من تأثيرات تتعلق بجملة ملفات عالقة، إضافة الى الموعد المنتظر للقاء مكة بين العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبد العزيز والرئيس الإيراني حسن روحاني، رغم أن لقاء مكة عام 2007 مع الرئيس أحمدي نجاد لم يغيّر من طبيعة التشنجات في المنطقة.
أما داخلياً فلا تزال اللعبة الخلافية مستحكمة بين فريقين، مع العلم بأنه منذ استقالة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي دخل عنصران إضافيان على خط الازمة، يتمثلان في وضع الاتحاد الاوروبي الجناح العسكري لحزب الله على لائحة الإرهاب، وانغماس الحزب أكثر فأكثر في الحرب السورية.
ورغم أن فكرة حكومة تكنوقراط تخطّاها الزمن، واقتنع فريق 14 آذار بتشكيل حكومة سياسية، لا يزال عنصر الخلاف مستحكماً بين الطرفين، إن لجهة إدخال حزب الله لبنان في حرب سوريا، ورفض قوى 14 آذار القبول ببيان وزاري شبيه بالبيانات الوزارية السابقة، فضلاً عن توزع الحصص الداخلية بين القوى السياسية المؤثرة. وثمة من يربط في الوسط السياسي المناوئ لرئيس الجمهورية بين التأليف الحكومي وبين انتخابات الرئاسة المقبلة على خلفية الاعتقاد أن رئيس الجمهورية ينظر الى القرار الاقليمي والدولي بتشكيل حكومة جديدة في ختام عهده على أنه مؤشر أساسي في مرحلة التسويات الى طيّ صفحة التمديد له، لأن أي حكومة سياسية جامعة قد تكون (ولو مع حصة له فيها) بديلاً من التمديد في حال لم تتمخض التسويات عن اسم الرئيس العتيد، واضطر الرعاة الاقليميون الى فترة فراغ مضبوطة الايقاع. وإذا كانت تجربة الدوحة 2 ليست في الأفق بحسب هؤلاء، تبقى الخشية من أن يكون تأخير التأليف بهدف ضمان التمديد كحاجة في ظل حكومة تصريف أعمال ومجلس نيابي ممدّد له.
لكن التمديد في هذه الحال يحتاج الى تعديل دستوري. وبحسب مصادر مطلعة، فإن رئيس الجمهورية حتى لو كان ميّالاً الى التمديد، فإنه سيكون أكثر الاطراف حاجة الى حكومة جديدة له فيها حصة، تحيل مشروع قانون التعديل على المجلس النيابي. وهو ما لا تستطيع الحكومة الحالية أن تقوم به.
من هنا، لا يمكن تصور تأليف حكومة، على أهميتها وضرورتها، بالمعنى الحصري الضيق، ما دامت التسوية الاقليمية متأرجحة بين واشنطن وموسكو وطهران، وتحتاج الى وقت لبلورة معالمها، سواء بالنسبة الى مؤتمر جنيف أو تدمير الاسلحة الكيميائية. أما إذا سلكت المفاوضات الاقليمية مسارها الطبيعي، فيمكن حينئذ بدء جولة جديدة من الحوارات الداخلية التي يمكن أن تفضي في نهاية المطاف الى تشكيل حكومة جديدة، وبدء الاعداد لانتخاب رئيس جديد.
ولأن توقيت الاتفاق الاقليمي والدولي لتشكيل حكومة جديدة مرتبط بعوامل متشابكة، فسيكون قرار التأليف أبعد من شكل الحكومة وبيانها الوزاري، وسيتخطى بأشواط فكرة الحصص. فهو سيكون محصوراً بهوية الطرف الاقليمي الذي سيكون قادراً على ضمان استمراريتها أو فرطها حين تدعو الحاجة، إذا تعثر على الطريق تنفيذ أي من بنود التسويات الاقليمية، سواء في ما يتعلق بتدمير الكيميائي السوري أو فتح الملف النووي الإيراني، أو حتى مسار الانتخابات العراقية. حينها تصبح حكومة لبنان، كما حصل منذ عام 2005 حتى اليوم، واحد من تجليات الخلافات الاقليمية والدولية. فإما أن تطير الحكومة وبعدها الانتخابات الرئاسية، أو تكون المعبر من أجل الوصول الى عهد رئاسي جديد يعكس صورة ما هو مطلوب للمنطقة.