كراهيات ما بعد الثورات

الثورات العربية

الكراهية، أقوى ديناميكية خرجت بها ثورات العرب. الطليعة العراقية سبقتها مع سقوط صدام. وبعد عقد من الزمن، طلعت على المسرح ضغائن جديدة، قديمة، مستحدثة: المذاهب، الطوائف، الأحزاب، الإثنيات، القبائل، الجنسيات، الجهات (شمال جنوب اليمن)، الإتجاهات، الزعامات، وفي آخر السلّم تماماً، الأقل تعبيراً من غيرها، الكراهية بين الفقراء والأغنياء… العداوة في ما بين كل هذه “المكونات” هي المحرّكة للحدث، هي التي تتقدم حثيثاً في مجرى التاريخ. كأن كل واحدة من مكونات هذه الكراهية لم تكن تحلم، بعد زلزال الثورات، إلا ان تعيش بمفردها منذ المهد… في العراق ومصر وسوريا، لكي لا نتكلم عن الباقين، الأقل تأثيرا على هذا المجرى… في هذه البلدان الثلاث ذات الثقل الإستراتيجي، سقط الديكتاتور منذ عشر سنوات في البلد الأول، وفي الثاني منذ عامين، والديكتاتور في طريقه الى السقوط، في الثالث. ثم ماذا؟ ماذا يحصل الآن في تلك البلدان الثلاث؟

في سوريا، كما يعلم جميعنا، الكراهيات مفتوحة على بعضها على مصراعيها؛ تخرق خطوط المعارضة، كما هو منشور في الصحافة، ولكنها أيضاً تخرق صفوف الموالاة، كما تبين التقارير الأقل أهمية، الأقل ذيوعاً. مذاهب وإثنيات وجبهات… دماؤها لا تقل غزارة عن تلك المسفوكة في العراق، وغير المؤثرة على الخارج، لأنها استقرت في موطنها وكفى! السيارات المفخخة المتبادلة بين السنة والشيعة في العراق تودي، أحياناً، بأكثر ما تفوز به براميل بشار من الأرواح. وصار الموضوع من الروتينية بحيث إن مفجري هذه السيارات هم أصحاب مظهر “عصري، كول…”، يقومون بمهماتهم بناء على تكليف مدفوع الثمن، لا همّ إن كان المموِّل سنياً أو شيعياً.

أما في مصر، فالأمر غير الاعتيادي حاصل: الشعب الحليم المحب للمرح والحياة، صار بأكمله محكمة تفتيش لا ترحم ضد الإخوان المسلمين أو ضد كل من يشتم منه رائحة إخوان، أو متعاطف معهم أو ناقد للعنف ضدهم… كراهية دعت رواد الفايسبوك أصحاب الحماسة المتدفقة، الى المطالبة بقتلهم، “لأنهم خونة” (“خونة”…). حماسة شعبية عارمة تشجع العسكر على ضرب الإخوان بيد من حديد، وتضيف الى لائحة كراهيتها الفلسطينيين، “الطابور الخامس”، والسوريين، “عملاء الإخوان”… صار الهجوم العنيف، البذيء، ضد الاخوان مثل فعل إيمان، مثلما كان أي كلام عن اسرائيل، يستهل دائماً بالـ”الصهيوينة، الغاشمة، البربرية…”. كانت إسرائيل “شرا مطلقاً”، واختفت؛ احتل صدارة “الشر المطلق” أي مواطن من بلدي، لا ينتمي الى مذهبي أو رأيي أو عرقي أو جنسيتي أو زعيمي…
الكراهية العنيفة هذه يوازيها حب عارم لا يقل عنها شغفاً. ليست كراهية أو حب شيء عادي، انما شيء يصيب مجالا آخر، مجال مصلحتي ومصلحتك ومصلحتنا جميعاً. هذا المجال الذي يتطلب اكثر المهارات عقلانية، “براغماتية” (ليس كما تترجم عندنا بـ”انتهازية”)؛ حيث العاطفة فيه ليست غائبة، وربما هي أقوى مما عندنا، ولكنها مضبوطة بقوانين التسويات والتفاوض والمصلحة والممكن الخ. لا شيء من كل هذا هنا… كلنا عواطف سياسية، حباً وكراهية فقط، عارمَة كل مرة.

ولكن، ربما هنا نرث نظاماً سقط رأسه، فانفجرت الكراهية من بعده. هل كانت هذه الكراهية محجوبة، مسكوت عنها، مضغوطة؟ لا يسمح النظام بالتعبير عنها؟ أم ان النظام، بنهجه، غذى كراهيات، أو اخترع جديد منها؟ وعندما سقط، كانت ناضجة؟ أم انها كراهية من نوع جديد تحتاج الى المزيد من الوقت لتجد لنفسها إسماً؟

تاريخنا العريق بالكراهيات جدير بدوره بالمساءلة. بمساءلة المؤرخين الذين لم يختلفوا يوماً على سطوره، ولا أزالوا قشرات “الحشمة” التي تحمي تأويلات واكاذيب وتلفيقات، بتنا الآن بأشد الحاجة الى كشفها.
“الآن”، أعني به عقود. فيما الكراهية سريعة…

السابق
التحرير والتنمية ل”أدعياء المستقبل”: كفى تهريجا في التعامل مع استحقاقات الوطن
التالي
سلب مواطنة في النبطية بعد تخديرها