مبادرة برّي بلا أوهام

يبذل رئيس مجلس النواب نبيه برّي جهداً كبيراً هذه الأيام. يكفي أنه ينحت ثقباً في جدار من جليد. رئيس المجلس ليس ساحراً، ربما يفوز الرجل ببطولة «مسابقة تدوير الزوايا»، لكن الأمور في المنطقة ولبنان وصلت الآن إلى غاية التعقيد.
هذا ليس «تهبيط حيطان» على المبادرة التي أطلقها بريّ في خطاب الذكرى الـ 35 لإخفاء الإمام موسى الصدر، إذ لم يعد في استطاعة أحد أن ينكر، منذ استقالة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، أن لبنان بات معلّقاً، حكومةً ومجلساً نيابياً وأمناً واستقراراً، وربما مصيراً، بتطورات الأزمة السورية على نحو لصيق.
بدا فريق 8 آذار منذ بداية الأزمة السورية أكثر حرصاً، في الأمن، على تحييد لبنان عن انعكاساتها. لا لشيء، سوى لأن فتح نقاط اشتباك أخرى أو بؤر توتّر وأحداث أمنية خارج الأراضي السورية، وتحديداً في لبنان، يزيد من تعقيد المعارك التي يقودها تحالف سوريا ــ حزب الله ـــ إيران، ويربك هذا الفريق، كما يعيق تركيز جهود حزب الله العسكرية على حصر اهتمامه بدعم نظام الرئيس السوري بشار الأسد.
قد لا تصلح قواعد السياسة ذاتها على الأمن. لن تستطيع قوى 8 آذار تأليف حكومة كتلك التي ألّفتها سابقاً بعدما انضوى الرئيس نجيب ميقاتي والنائب وليد جنبلاط، ومعهما رئيس الجمهورية ميشال سليمان، في تحالف جديد ـــ قديم عنوانه «الوسطية». في أحسن الأحوال، يمكن 8 آذار أن تنتزع من 14 آذار حكومة وحدة وطنية. لذلك، لا شيء يدفع حلفاء سوريا في لبنان الى تقديم تنازلات حقيقية لتأليف حكومة لا تأخذ في الاعتبار هواجس حزب الله والنائب ميشال عون. وربما يكون الوضع الحالي أكثر من ملائم .
على المقلب الآخر، انخرطت قوى 14 آذار، منذ بداية الأزمة السورية، في تقديم الدعم اللوجستي والبشري لمعارضي الرئيس السوري، عبر نقل السلاح والمال والرجال في مناطق نفوذها على الحدود اللبنانية ـــ السورية. رمت 14 آذار كل أوراقها في لعبة الرهان على سقوط النظام السوري. وحين استقال ميقاتي، وقفت أمام الرهان من جديد على تغيّرات في سوريا تتيح لها الاستئثار بالسلطة، على وقع انتظار هزيمة حزب الله. هذا الفريق لا يزال ينتظر المتغيرات السورية حتى يقرّر كيف سيتصرف في الملفات الداخلية، وهو، منذ تسمية النائب تمام سلام رئيساً مكلّفاً، ينتظر تغيّر ظروف الإقليم ليؤلّف حكومة على قياسه، لكن تعقيدات الأزمة السورية، جعلت هذا الفريق اليوم في حالة عدم توازن. على سبيل المثال، لم يعد «ثوار الأرز » يفكّرون في شيء، منذ بدأت التهديدات الأميركية بشنّ عدوان على سوريا، إلّا في كيفية استغلال ما بعد العدوان الأميركي المفترض في لبنان. اليوم، تزداد حيرة هذا الفريق بعد الحديث عن التسوية الأميركية ـــ الروسية، وعدم وضوح انعكاساتها على سوريا ولبنان. وبمعزل عن رغبات قوى 14 آذار، لا يمكن لهذه القوى أن تنكر انتماءها الى محور تقوده مملكة آل سعود التي تصرّ على اعتبار حزب الله عدواً.
ما يقوله أكثر من مصدر مقرّب من حزب الله إن «فريق 14 آذار لا يملك زمام المبادرة في شيء لكبح الالتزامات الخارجية التي تحكمه، ولا يستطيع الخوض في تسويات أو توافقات داخلية بمعزل عن القرار السعودي بمعاداة حزب الله وعرقلة قيام أي حكومة يمكن أن يكون للحزب وحلفاؤه فيها تمثيل وازن. في اللعبة الكبرى، ينفذ فريق 14 آذار ما يقوله الأمير بندر بن سلطان، ولو لم يكن هذا الفريق عاجزاً عن خلق توازن مع قوى 8 آذار، لكنّا رأيناه يتحرّك عسكرياً»، فيما «هامش فريق 8 آذار في الملفات الداخلية أوسع»، لأسباب عديدة، منها «مصلحة محور المقاومة في هدوء الساحة اللبنانية».
يعرف رئيس المجلس كلّ هذا. والحال أن شيئاً ما لم يتغيّر منذ أعلن، قبل أشهر، أنه أطفأ محركّاته وكَتَّفَ يديه على صدره، لكن ما الذي دفعه الى إعادة تشغيلها؟
تقول مصادر عين التينة إن برّي «يدرك حساسية الوضع اللبناني ومدى تأثير الأزمة السورية على كل شاردة وواردة في البلد. في السابق أطفأ محرّكاته لأنه أدرك أن الأفرقاء السياسيين، وتحديداً فريق 14 آذار، لا يريد حلّاً، ويفضّل الانتظار. إلى ماذا وصل هذا الفريق الآن؟ إلى لا مكان. لذلك، أعاد الرئيس تشغيل مبادراته الآن، لاعتقاده بأن الأفرقاء اللبنانيين بعد تفجيرات طرابلس والضاحية والحديث عن تسوية روسية ــ أميركية، باتوا على قناعة بأن لا سبيل غير الحوار».
وتشير المصادر إلى أن جولة النواب ميشال موسى وعلي بزّي وياسين جابر على كلّ الكتل النيابية في الأيام الماضية «تبدو ممتازة من حيث الشكل»، إذ وافقت قوى 8 آذار عليها من دون شروط، فيما «قالت كتلة المستقبل نعم لمبدأ الحوار، واعترضت على جدول الأعمال». والاعتراض يتمثّل في نقطتين: الأولى هي نقاش سلاح حزب الله وانسحاب مقاتليه من سوريا، والثانية هي ما تسميّه مصادرة صلاحيات رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة». و«وحده (رئيس حزب القوات سمير) جعجع رفض الفكرة من أساسها». وتقول مصادر عين التينة، هنا، إن «بعض القوى السياسية لا تريد أن تسمع ما يقوله برّي، الذي ذكر في نصّ المبادرة ضرورة الشروع في الحوار في خلوة (خطّان تحت خلوة)، لمناقشة أمور عديدة. لم يقل الرئيس حوار بنتائج مؤكدة، لكن على الأقل فلنقم بخلوة لنناقش كل شيء من دون تحفّظ. لو كنا متفقين، لماذا نحتاج للنقاش؟». وتعليقاً على ما سماه المعترضون «مصادرة صلاحيات الرئاستين الأولى والثالثة»، تسأل المصادر: «ألم يكن اتفاق الدوحة مصادرة لصلاحيات الرئاسات الأولى والثانية والثالثة؟ ألم يكن حضور الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى جلسات النقاش بين الرئيس سعد الحريري والنائب ميشال عون لتأليف حكومة ما بعد الدوحة مصادرةً للصلاحيات المذكورة؟ لا يمكنهم التذرع بأن ما بعد الدوحة كان وضعاً استثنائياً، لأن الوضع الآن فوق الاستثنائي».
ومن المستغرب أن تصر قوى 14 آذار على «إعلان بعبدا»، بعدما «مرّ الزمن على مسألة النأي بالنفس، وانخراط الفريقين في الأزمة السورية»، كما أن «إعلان بعبدا» ليس الأمر الوحيد المثبت في محاضر الأمم المتحّدة ومجلس الأمن، إذ ذكرت تقارير عديدة لمجلس الأمن في أيار وأيلول عام 2006 نتائج طاولة الحوار التي دعا إليها برّي، وسليمان ورِث حواراً قائماً منذ ما قبل انتخابه رئيساً للجمهورية، كما أن هذا الحوار هو من أتى به إلى سدّة الرئاسة، كما سيأتي بغيره في المستقبل. وترى مصادر عين التينة أن «من الممكن لسليمان أن يطرح خلال زيارته الأمم المتحدة الأسبوع المقبل في مؤتمر لدعم لبنان، موضوع تنفيذ القرار 1559، وليساعدنا مجلس الأمن على انسحاب الجيش الإسرائيلي من مزارع شبعا قبل المطالبة بنزع سلاح المقاومة وسلاح الفصائل الفلسطينية خارج المخيمات، بما أن القرار 1701 قد ذكر مسألة الانسحاب من مزارع شبعا، وليس حصر مساعدة لبنان فقط بمسألة النازحين السوريين».
بري ليس واهماً. تؤكّد المصادر أنه «وضع نصب عينيه مستويات لنتائج مبادرته، من أفضلها إلى أسوئها. أفضلها قد يفضي إلى حكومة وحدة وطنية، وأسوأها أن يجلس السياسيون وجهاً لوجه من دون نتائج ملموسة، سوى تخفيف الاحتقان في البلد في انتظار تسوية إقليمية ودولية».

السابق
الكيميائي من روسيا وإلى روسيا يعود؟
التالي
هل خدعوا أوباما؟