سياسة العنزة الطائرة

يعرف الممانعون والمقاومون منذ اليوم الاول لمجزرة الكيماوي في الغوطتين، المجرم الحقيقي. ويدركون إدراكاً لا يساوره شك أن قوات النظام هي من أطلق الصواريخ القاتلة على أهالي القرى النائمين. بيد ان ذلك وغيره لا يغيّر قيد أنملة ولاءاتهم وانحيازاتهم.

ويعرف هؤلاء، بالقدر ذاته من اليقين، مَن المسؤول عن انفجارات ضاحية بيروت الجنوبية وطرابلس الشهر الماضي. لكنهم يغضون النظر ايضاً.

لماذا؟

يشير تقرير المفتشين الدوليين اشارة واضحة الى الجهة التي أُطلقت منها الصواريخ الكيماوية (شمال وشمال شرق القرى المنكوبة). ويحتوي الملحق رقم 5 من التقرير على صور بقايا الصواريخ التي يقول الخبراء انها تعود الى طرازي «فلق 2» الايراني و»إم 14» الروسي. لا أحد يملك هذه الاصناف من الأسلحة في سورية غير قوات بشار الأسد. طبعاً لم يعلن التقرير ان الصواريخ اطلقت من مواقع باتت معروفة مثلها مثل اسماء الضباط الذين يقودونها، لكن المفتشين اكتفوا بالقول ان «الوقائع تتحدث عن نفسها». وهي كذلك.

ويجوز الجزم ان جرائم لا يحصيها عدد ارتكبها النظام وأتباعه في سورية تجد القبول والتبرير عند الممانعين الذين سيسارعون كذلك الى تبرئة القاتل من كل ما سيرتكب في المستقبل. منظومة الذرائع المستخدمة، على ضحالتها، ما زالت تتكرر في وسائل الاعلام الممانعة: المقاومة ضد اسرائيل أولوية لا تعلوها أولوية. حماية الاقليات. التصدي للتكفيريين وتنظيم «القاعدة». ويتوج الرئيس السوري هذه الدرر بتأكيده أن سورية لا تشهد حرباً، بل هجوماً من «القاعدة».

أخطاء ومثالب وارتكابات بعض القوى التي ألصقت نفسها بالمعارضة السورية، لا يمكن الدفاع عنها بل تنبغي ادانتها والتصدي لكل من يعتدي على المواطنين السوريين باسم الثورة. لكن هذا شيء وأخذ كل الشعب السوري وثورته بجريرة بعض المشبوهين شيء آخر تماماً. لكن تغليب الهوامش على المتن سياسة راسخة في «منطق» الممانعة وكتبتها.

يذكّر السلوك هذا بقصة رجل وزوجته شاهدا جسماً غريباً على تلة صغيرة. فأصر الرجل ان الجسم عنزة فيما قالت الزوجة انه بجعة. وعندما مدّ الجسم جناحيه وارتفع في السماء لم يجد الرجل ما يقول سوى «عنزة ولو طارت».

يتذاكى الممانعون باستخدام المواقف الروسية المشككة بالتقرير الدولي ويطرحون آية الأسئلة: هل يُعقل ان تكذب دولة كبرى في شأن بهذا الخطر؟ الجواب البسيط: نعم يُعقل. ومثلما كذبت الادارة الاميركية في شأن العراق قبل عشرة أعوام، هاهي ادارة بوتين تكذب في شأن سورية اليوم.

على ان كل ذلك يدخل في باب المهاترات والمماحكات الفارغة. لب المسألة يكمن في الحقائق الاجتماعية والطائفية المكونة للقسم الأكبر من الممانعين، وفي ذعرهم من تغيير طبيعة الحكم في سورية وما سينتج عنه من تعديلات لخريطة تقاسم السلطة في لبنان.

المسألة تبدو أعمق من النزاهة الاخلاقية والصواب السياسي ذلك انها تمس الحساسية الطائفية التي أصرت الطوائف الحاكمة في هذه المنطقة على وضعها في تناقض تناحري مع الهوية الوطنية. وبات الانتماء الطائفي وخطابه الايديولوجي، المستضعف – المقاوم – الكادح – الخ هو ما يتأسس عليه كل تعريف للواقع وللهوية.

وهناك من يحلو له حشر مسألة الهوية في زاوية القدر، جاهلاً ان تغيير الاقدار هو ديدن التاريخ وقانونه.

السابق
سلاح الإغتصاب في الحروب
التالي
الكيميائي من روسيا وإلى روسيا يعود؟