أميركا أم النظام السوري : السؤال المغلوط

في حربي الخليج الأولى والثانية وفي الحرب الأميركية على أفغانستان ، انطرح السؤال ذاته، وهو يطرح اليوم مرة ثالثة بمناسبة التهديدات الغربية القاضية بتوجيه ضربة إلى النظام السوري. هل نكون مع سوريا ، كما في الماضي مع العراق وأفغانستان ، أو نكون مع أميركا ؟
خلال التحضير لحرب الخليج الثانية اقترح جورج حاوي تنظيم جدار بشري تضامني مع العراق ضد الغزو الأميركي . قلت له ، وماذا لو انتصر صدام حسين ؟ أميركا كانت تبحث عن ذريعة بسلاح دمار شامل لم تعثر عليه ، وفي ظنها أن خطر هذا السلاح يطال اسرائيل ، لكنها لم تحسب حسابا إلى سلاح دمار آخر كان يجسده صدام حسين ولا يهدد به غير شعبه ووحدة وطنه .
اليوم يطرح السؤال ذاته ، ماذا لو انتصر بشار الأسد ؟ مناصروه هم أول ضحاياه ، ألم تكن تلك نهاية رفاق حافظ الأسد ؟ ليس برنامج أهل النظام للحفاظ على السلطة سوى سلاح دمار شامل يهدد الشعب السوري، وليست سياسة الاستبداد المستديمة سوى الأداة التي استخدمها بقسوة لتفكيك أوصال لبنان والقضاء على مؤسسات الدولة فيه وتفتيت مكوناته البشرية واستنفاد طاقاته الاقتصادية ، وتقويض بنيته كوطن ، بخلفية الإدانة الحازمة لقيام وطن اصطنعه الاستعمار في اتفاقية سايكس بيكو.
نبرر للنظام دفاعه الدموي عن نفسه وعن تأبيد وجوده ، هذا من الأعراض الطبيعية للاستبداد ، لكننا لا نجد مبررا لمناضلين انتموا إلى العروبة منذ نعومة أظفارهم ولم يتيقنوا بعد من التغييرات الجوهرية الجذرية التي طرأت على أوضاع الأمة منذ قرن على الأقل .
أولا: الأحزاب اليسارية والقومية والتقدمية حققت لبلدانها الكثير من الانجازات ، لكنها فشلت فشلا ذريعا في تنفيذ المهمات التي تنطحت لها، والشعارات التي رفعتها (وحدة حرية اشتراكية) كما أنها لم تقم بدورها في حماية العروبة ولا في حماية القضايا القومية ، ولا حتى في حماية وحدة أوطانها ما أفقدها كل المهابة التي كسبتها في المرحلة الأولى من نضالها ضد ” الامبريالية والصهيونية والاستعمار والرجعية العربية” .
ثانيا: أوطان الأمة العربية باتت حقيقة واقعة عمرها قرن من الزمن ، ولم تتمكن النزعات القومية الشوفينية من إفراغ الأوطان الحديثة من مضمونها وإعادتها إلى عصر الإمارة والسلطنة والخلافة . فلا تدخل عبد الناصر حمى اليمن من أزماتها ، ولا تدخل السادات والقذافي حمى السودان من التقسيم والحرب الأهلية ، ولا تدخل صدام حسين في الكويت وحافظ الأسد في لبنان ألغى شرعية هاتين الدولتين الصغيرتين من دول الجامعة العربية .
ثالثا: النظام الرأسمالي العالمي ، بنسخته الاستعمارية قبيل الحرب العالمية الثانية وبعدها هو الذي ساهم في تأسيس الأوطان العربية ، بعد أن كانت ولايات تابعة للسلطنة العثمانية . غير أن تغيرات جذرية وجوهرية طرأت على هذا النظام ، فسقطت “خطيئة” الآباء المؤسسين بمرور الزمن ، ولم يتبرّأ جيل الأبناء منها لكنه راح يصنع خطاياه هو . غير أن المناضلين في الألفية الثالثة لم يبدلوا شعاراتهم ولا اساليب نضالهم ولا برامجهم ، بل ظلوا حيث كان أجدادهم ، متمسكين بخطابهم “الخشبي” ضد الغرب الاستعماري وأعوانه من الرجعية العربية ، مع أن الحدود ضاعت ، بسقوط الاتحاد السوفياتي ، بين تقدمي ورجعي ، ويميني ويساري ، ولم تعد تنطلي على أي متنور عربي أوهام النضال القومي الرسمي ضد الصهيونية ، ولا مزاعم العداء الرسمي للرأسمالية والنظام الغربي .
رابعا : سقطت المشاريع التي حملت عناوين الوحدة : الوحدة العربية هي الحل ، الوحدة الاسلامية هي الحل ، الوحدة الاشتراكية ( الأممية ) هي الحل . سقطت بالتحديد لأنها وضعت أسسا نظرية وسياسية للاستبداد ، وطبقتها برعاية أنظمة الحزب الواحد وسطوة الأجهزة الأمنية والمخابراتية فألغت الرأي الآخر بالقتل أو النفي أو السجن ، وحقنت معنى السيادة بمضمون جديد فحواه استخدام أسلحة دمار شامل ضد كل رأي مختلف ، كان آخرها الاسلحة الكيماوية التي ، ليس من الصدف أن يكون الحزب ذاته بفرعيه العراقي والسوري قد استخدمه كل ضد شعبه .
خامسا : قاسم مشترك بين هذه مشاريع الأصوليات الثلاث هذه ، هو العداء للغرب ، باعتباره ممثلا للامبريالية (اليسار الاشتراكي) أو لقوى استعمارية ( اليسار القومي) أو للالحاد والغرب المسيحي ( الاسلام السياسي). لم تتعلم هذه الأصوليات من دروس التاريخ أن هذه المصطلحات هي مما عفا عليها الزمن ، وأن مجاراة العصر باتت تتطلب علوما جديدة غير الطيور الأبابيل والشتائم والعنتريات والقيم البدوية ، وسياسات جديدة تلزم أصحابها بالانخراط في مسيرة تطور القرية الكونية التي هي الكرة الأرضية ، لأنه لا الانعزال عن العالم كما فعل الاتحاد السوفياتي أو الصين هو السبيل إلى اللحاق بحضارة العصر ، ولا محاربة العالم كما تفعل الاصولية الاسلامية ، هي السبيل إلى الدخول في النهضة ، ولا مجافاة الديمقراطية ، حتى المدعومة من الغرب “الرأسمالي الامبريالي والممولة من نفط الخليج ، هي السبيل إلى بناء الأوطان الحديثة وتحقيق الأمن والسلام الداخلي في كل وطن .
حل واحد ينقذ أوطاننا من أزماتها ، يبدأ الحل بتغيير مضمون السؤال ، إذ ليس هناك من فارق بين استبداد غربي استعماري واستبداد قومي ومحلي ، بل ربما صح في ذلك قول الشاعر ” وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ” . الحل بقيام الدولة الوطنية ، دولة القانون والمؤسسات ، الدولة التي ليس معنى السيادة فيها سوى سيادة القانون ، الدولة التي تناهض الاستبداد من أي جهة أتى من الشرق أو من الغرب ، الدولة التي يعيش فيها المواطنون تحت سقف القانون ، ويجسدها نظام يعمل لمصلحة شعبه لا لمصالح دول أخرى قريبة أو بعيدة . السؤال مع من نكون ، مع النظام السوري أم مع أميركا سؤال مغلوط . السؤال الصحيح هو كيف نبني دولة القانون والمؤسسات والعدالة والحرية والمساواة أمام القانون . دولة الفصل بين السلطات والكفاءة وتكافؤ الفرص . تلك هي الدولة الديمقراطية . نعم الديمقراطية هي الحل.

السابق
الوفاء للمقاومة: مبادرة بري تمثل اقتراحا واقعيا يستجيب للحد الأدنى المطلوب لتحصين البلاد
التالي
العربية: الجيش الحر يقتحم اعزاز لاستعادتها من مسلحي دولة العراق والشام