سباتُ التأليف طـويل

يتعيّن أن ينقضي وقت طويل آخر قبل أن تبصر حكومة الرئيس تمام سلام النور. لم تعد المشكلة بين يديه ويدي رئيس الجمهورية فقط، ولا الحل عند الطرفين المعرقلين في قوى 8 و14 آذار، ولا لدى الذين يختبئون وراءهما فحسب، بل الأصح أن كلاً منهم يملك الربط ولا يملك الحل.

بات تأليف الحكومة أقل من مسألة ثانوية في اهتمامات المسؤولين الرسميين والمعنيين بالاستحقاق بعدما تأكد، أكثر من أي وقت مضى، أن أسرار التكليف كما التأليف كما الاعتذار عن عدم التأليف كما تعطيل التأليف في يد الخارج. في أحسن الأحوال، لم يعد يسع أحداً في الداخل الإقدام على أي من الخيارات الثلاثة تلك، من دون استمزاج رأي هذا الخارج. لكن أحداً لا يسعه كذلك أن يعرف أي خارج يمسك وحده بالأسرار تلك. فقدت الصلاحيات الدستورية مرجعيتها في تأليف الحكومة بعدما تيقّن المسؤولون المعنيون أن ممارستها ـــ لأن الدستور يأمر بها ـــ تسبب أزمة سياسية ووطنية أكثر وطأة من الفراغ الحكومي نفسه.

لم يعد رئيس الجمهورية والرئيس المكلف ـــ وهما مرجعا التأليف ـــ يقاربان المشكلة من باب التردد والتهيّب والحذر، بل من باب انتظار الظروف والمواقف الإقليمية الملائمة التي تشق الطريق أمام إبصار الحكومة الجديدة النور، الأمر الذي فسّر تداعي خيارات التأليف اقتراحاً تلو آخر تباعاً.

هكذا يذهب الرئيس ميشال سليمان الى نيويورك الاثنين المقبل للمشاركة في الدورة العادية للجمعية العمومية للأمم المتحدة والمؤتمر الدولي لمساعدة لبنان، ويعود في اليوم الخامس، الجمعة الذي يلي، من دون أن يكون التأليف قد حُسم. تشعّبت الخيوط المحوكة بتعثر التأليف كي تحيله أمراً واقعاً ينتظر صدمة من الخارج لا من الداخل، وفق بضعة مؤشرات منها:

1 ـــ أن الرئيس تمام سلام ليس في وارد الاعتذار عن عدم التأليف في المدى المنظور، طال انتظاره أو قصر، لسببين متلازمين على الأقل: أحدهما أن الاعتذار ليس مخرجاً لأزمة باتت تتجاوز التكليف والتأليف معاً، والآخر أن الاعتذار لا يوفر له مكسباً يعوّض المأزق الحكومي على الصعيد الشخصي أو السياسي. كلا السببين لا يمنحان أي رئيس مكلف آخر يخلفه الوصول بالاستحقاق المؤجل إلى أبعد مما راوح فيه سلام في الأشهر الستة الحالية حتى الآن.

لا يريد باعتذاره تحمّل وزر فشل التأليف الذي يعزوه الى موازين القوى الداخلية والخارجية بمنعها كلاً من قوى 8 و14 آذار من التوافق على حكومة جديدة.

2 ـــ اعتقاد الطرفين المحليين، من ضمن الخيوط المتاحة بين أيديهما للتلاعب بالتأليف، بعدم جهوز أي منهما للجلوس مع الآخر الى طاولة ترسي تفاهمات أولية تسبق التأليف. من دون تفاهمات مسبقة، لا تأليف حتماً. مغزى ذلك أن معظم الصيغ التي جرى تداولها في الأشهر المنصرمة حتى الأسابيع الأخيرة، كلما بدا أن الاستحقاق أفاق من سباته، ذهبت بلا رجعة: الحكومة المحايدة، وحكومة التكنوقراط، وحكومة الأقطاب، وحكومة ممثلي الأحزاب أو وزراء الصف الثاني.

تهاوت كذلك، حتى إشعار آخر، المعايير التي لزمت الرئيس المكلف منذ اليوم التالي للاستشارات النيابية التي أجراها بعيد التكليف في نيسان عندما أصر على مداورة الحقائب وإقصاء الأسماء الاستفزازية ورفض منح الثلث + 1 لأي أحد في حكومته. جارى الرئيس ميشال سليمان الرئيس المكلف في معظم هذه المعايير. مع ذلك، لم يسعهما تأليف الحكومة عملاً بصلاحياتهما الدستورية المطلقة، وغير المقيَّدة، لسبب جوهري وواقعي تيقّن الرئيسان من أنهما غير قادرين على إهماله ـــ إلا أنهما اعترفا ضمناً به ـــ وهو أن لكل من قوى 8 و14 آذار، وتحديداً تيّار المستقبل وحزب الله حق الفيتو على التأليف.

أضعف إقرار سليمان وسلام بالفيتو المتبادل للطرفين صلاحياتهما الدستورية، لكنهما وجدا فيه مخرجاً للحؤول دون أزمة وطنية خطيرة تتجاوز الفراغ الحكومي الى ما قد يكون أدهى.

3 ـــ بالتأكيد، وضعت السعودية بين يديها وحدها مفتاحي تكليف سلام وعدم اعتذاره عن عدم تأليفه الحكومة، إلا أن التأليف ليس مقصوراً عليها وحدها. وهي بذلك تمسك بجزء من المشكلة، هو في الوقت نفسه جزء من الحل، ولا تمسك بالجزء الباقي من المشكلة والحل معاً. بل يبدو من الوهم الاعتقاد بأن تضييقها على حزب الله في لبنان منفصل عن حملتها الضارية على نظام الرئيس بشار الأسد في سوريا لإسقاطه. كلاهما مكمّل للآخر من أجل أن يتهاويا معاً.

يعكس تيّار المستقبل بحرارة ونبرة عالية الموقف السعودي الذاهب بعيداً في محاصرة حزب الله ومصالحه ومطاردته في دول الخليج من خلال الإجراءات المتتالية لمجلس التعاون الخليجي، عبر رفض مشاركته في حكومة سلام. يقرن التيّار تشبثه هذا بالدور المتعاظم للحزب في الحرب السورية.

في المقابل، لم يبد حزب الله أدنى اهتمام بهذا الرفض، ونظر الى دعمه نظام الأسد على أنه استحقاق مصيري يرتبط بمستقبله ووجوده في صلب المعادلة الإقليمية، دونما الالتفات بالضرورة إلى المسألة الحكومية. ليست عنده سوى تفصيل ثانوي وهامشي في نزاع إقليمي يختلط البعد العقيدي والديني فيه بالبعد السياسي. بذلك يرفض حزب الله الانسحاب من سوريا، ويكتفي بلامبالاة ظاهرة عبر إبلاغ الأطراف المعنيين، وأخصهم رئيس الجمهورية والرئيس المكلف بأن لا حكومة جديدة ليس طرفاً أصيلاً فيها، ولا حكومة جديدة تتجاهل سلاحه أو تجرّده من شرعيته، ولا حكومة جديدة لا تضع نصاب التعطيل بين يديه.

4 ـــ تتباين الآراء داخل تيّار المستقبل، وإلى حد بين أركان قوى 14 آذار، من ضمن موقف عام موحد بين قائل بفتح باب الحوار مع حزب الله في سبيل الوصول الى تفاهمات ضرورية لتأليف الحكومة، وقائل متحفظ عن هذا الحوار خشية أن يبدو بأنه يشرّع انخراطه في الحرب السورية ويعززه بغطاء لبناني، وقد يفسر الموقف على أنه تغاضٍ سنّي على الأقل.

وإذ يعتقد أصحاب الحجة الأولى أن «تفاهمات الأعداء» تولد على طاولة الحوار والتفاوض المباشر أو غير المباشر على غرار تسوية الطائف بين الأعداء اللبنانيين عام 1989، و«تفاهم نيسان» عام 1996 بين العدوّين حزب الله وإسرائيل، واتفاق الدوحة عام 2008 بين العدوّين السنّي والشيعي اللبنانيين، يلاحظ أصحاب الحجة الثانية أن الموافقة على انضمام حزب الله الى حكومة سلام، كالجلوس معه الى طاولة حوار وطني، أقرب الى التسليم بدوره في سوريا والتشجيع عليه، ما يحمل هذا الفريق على الإصرار على إبقاء خيوط الاتصال والتواصل مقطوعة معه الى أن يعود من سوريا أولاً.

السابق
السلطة السورية عاريةً
التالي
المعجزة السورية