مثقّفون مصريون ضد الثورة السورية!

المثقفون المصريون في غالبيتهم، إن اهتموا بما يحصل في “بلاد الشام”، بقدر ما يهتم أهل هذه البلاد بمصر، فانهم يؤيدون النظام السوري. آخر هذه “الإهتمامات”، لأحد أبرزهم شأنا وأكثرهم شيوعاً، كتب مؤخراً مقالاً، يشبه البيان، أدلى فيه بكل ما يمكن أن يثلج قلب النظام السوري. طرح في مستهل مقال كتبه لإحدى الصحف البيروتية: “لماذا لا تعيد الحكومة المصرية العلاقات المقطوعة مع سوريا اليوم وليس غداً؟” وكان الجواب مجموعة من الأوصاف والأحكام جديرة بقناة “الدنيا”، السورية شبه الرسمية. قال ان الثورة السورية “أكذوبة”، وانها “مجموعة من العصابات الإرهابية المدعومة من قطر وفتاوي القرضاوي”. وهو “حزين على الجيوش العربية التي تدمَّر”، ومنها “الجيش السوري”، الذي ينقض عليه هذا الإرهاب. فيما المجزرة الكيماوية، “هناك دلائل” على انها من تنفيذ “العصابات الإرهابية للتسريع في الإجهاز على ما تبقى من سوريا الدولة”، مستخلصاً: “انها سايكس بيكو جديدة، ولكن التنفيذ عبر الإرهاب” الخ.
نذكر، فقط على سبيل وضع الأمور في سياقها، بأن المثقف الأبرز، كاتب السطور السالفة، كان له، قبل الثورة، برنامج تلفزيوني في القناة الحكومية، يغدق في حلقاته، المدعاة “ثقافية”، مديحاً لحسني مبارك بما يخدش الذوق واللغة. وقد ورد اسمه في قضية “كوبونات صدام”، تلك الفضيحة المطوية التي برز من بين أبطالها مثقفون “كبار”، حيث اقتصر دورهم على قبض شيكات رشوة من صدام. بل أكثر… ان رواية “زبيبة والملك”، التي “ألفها” صدام حسن، كانت بقلم مثقفنا الأبرز. ومنذ أيام عاد اسمه ساطعاً بمقال كتبه حول استقالة البرادعي، جدير بأن يوقّعه أحد رؤساء تحرير المجلات الفنية الفضائحية. لماذ؟ لأن البرادعي رفض الحل العسكري الذي نفذه الجيش ضد معتصمي الاخوان في أواسط آب الماضي.
قد نكون اخترنا أسوأ النماذج من بين المثقفين المؤيدين للعسكر والمناهضين للثورة السورية؛ الذين هم على ادعاءات أخلاقية عالية، ينقصها الإمتلاء. من المؤكد ان هناك شرفاء بالمقابل، على الموقف نفسه؛ ومراميهم لم ينل منها التلاعب والفساد وانعدام الشجاعة. أردناه، هذا النموذج، ليكون مدخلا الى شرائح الأنتلجنسيا المصرية التي انضمت الى ركاب “خريطة الطريق” بقيادة عبد الفتاح السيسي. الشريحة الأولى من هذه الأنتلجنسيا هي “كوكبة” من الشخصيات الثقافية والفكرية العامة، تتفاوت درجة إنتهازية أصحابها، بين قليل وصارخ؛ عاشت وازدهرت في العهد المباركي القديم. وها هي اليوم تتمتع بـ”أزهى العصور الديموقراطية”. تختلط الانتماءات السياسية لأصحابها، بين اليسارية والناصرية والقومية المصرية والعلمانية والليبرالية. و”الليبراليون” هم خليط من معارضين رسميين للنظام السابق، ومن موالين معلنين له، وأساتذة جامعات ذوي حضور تلفزيوني ثابت. يخرج عن هذا “الإجماع الوطني” ضد الاخوان المسلمين “منظمة الاشتراكيين الثوريين” و”6 أبريل”، ناهيك عن كتاب من هنا هناك، ضائعين في غابة الغالبية.
الذي يجمع هذه الأنتلجنسيا حول العسكر، هي مجموعة من الصيغ، هي النواة الصلبة لكل التنغيمات الدائرة حولها. أولها ان العسكر يقاوم الآن مؤامرة إخوانية بدعم أميركي، وأحيانا اسرائيلي. وان الوطنية المصرية هي فوق كل شيء. إفهم الشوفينية المصرية، المعطوفة على شعوبية “الشعب… الغالبية…”، “الشعب الحبيب…” (ألم يكن شعار الثورة “الشعب يريد…”؟). والشعب يريد الآن العسكر، ونحن وراءه. وان ما ينقذه العسكر الآن هو الدولة والجيش المصريين، فضلا عن الديموقراطية والدستورية. صيغة أخرى مستحبة لدى هؤلاء المثقفين، وهي رديفة، تمزج بقوة بين تنظيم “حماس” الذي يتهمه الجيش بدعم الإرهاب في سيناء، وبين الفلسطينيين، الذين يلاقون في الشارع والدوائر المصرية أنواعاً من الإنتهاكات. وهم، وهذا أشد فتكا على تصوراتهم، يمزجون بأكثر من القوة، بين “الارهاب”، الذي يواجهه الجيش المصري، وبين “الارهاب” الذي يواجهه الجيش السوري. من هنا ينطلقون الى رحاب الدنيا، فيرون ما يرونه في سوريا، غير فاعلين أكثر من نقل نظرتهم من موقع الى آخر، شبيه، كما يعتقدون، أو يؤمنون…
ولكن هذه الأسباب “الفكرية” التي تقف خلف موقف غالبية المثقفين المصريين من الثورة السورية، ليست هي وحدها التي تفسر هذه المواقف. ثمة أشياء أخرى: هناك نوع من الإستشراق المصري، الشبيه الإستشراق الغربي، ينظر الى بلاد الشام، كما ينظر الى بلاد الأهرامات؛ بالمعايير نفسها، كما يفعل المستشرقون الغربيون عند تناولهم للشرق. هذا الميل العميق، شبه الواعي، تمثله تلك العاطفة القيادية التي تنضح من أصغر المصريين الى أكبرهم؛ عاطفة متأصلة، تقول بحتمية، بحق، بأولوية قيادة مصر الإقليمية…. عبد الناصر طبعاً حاضر هنا بقوة، من بين الأسباب الاخرى، لهذا السبب بالذات؛ لأنه يؤجج تلك العاطفة. وترى هذه القيادية لدى الأنتلجنسيا المصرية في الحق التلقائي الذي يشعر به المصري بتطبيق هيكله الفكري المصري على أي تناول غير مصري، خصوصا مشرقي. فتكون النتيجة تلك التبسيطية المذهلة لدى مثقفين كبار في النظر الى التعقيدات السورية؛ بحيث يخلطون كما يشاؤون بين إرهاب وإرهاب، بين جيش وجيش، بين دولة ودولة، ويبلغون بذلك بسرعة البرق وضعية مزرية في تناولهم للثورة السورية. لا يدخل في تصورهم كمية الخيوط المتداخلة في هذه الحرب، (خصوصاً بين الإرهاب والنظام)، جبال الاكاذيب والتشويشات التي عمرت اثناءها، تقاطع الولاءات والانتماءات وتناقضاتها… (هل يتصرفون على النحو ذاته مع الثورات الأخرى، إن اهتموا؟).
وفي أعمق من ذلك، وبالتواصل معه، يوجد ذلك الحق الذي ينتزعونه الآن، بموقفهم المخزي هذا من الثورة السورية، يوجد تلك الأنانية التي تنال ممن لم تفضِ ثورته الى إسقاط رأس نظامهم…. يريد ان يمنع غيره من القيام بتلك التي خاض بها، وانتهى، كما يتصور. طبعاً لن يقول لك أحد من هؤلاء المنضوين الجدد في صلب النظام، الإنتقالي الجديد، انهم سلموا أمرهم للعسكر. لكن ترهلهم سوف يخونهم…
إلا أن مسؤولية هذا الإنزياح العام للإنتلجنسيا لا تقع فقط على خيارات المثقفين المصريين، وسياقاتهم، وثقل توافقياتهم. تقصير الثورة السورية، ودائما الوقت مناسب لتناوله… تقصير إعلامي، يقابله طلب شديد على المعرفة؛ وهي حاجة يلبيها أفراد بعينهم. وهؤلاء، وسط المطحنة الإعلامية الرسمية، ذات الإمتدادت الأخطبوطية، ومهما كانوا عليه من طاقة… لا يحيون آلة، لأنهم مبعثرون. وإن تجمعوا، انشغلوا بحل خلافاتهم. ليس لدينا دروس نعطيها للمعارضة المدنية. ولكن علينا جميعا الإنتباه الى ان لغة الشتائم ضد الأسماء المصرية المؤيدة للنظام لا تفكّ أي لغز. وهي لغة لا تستطيع أن تفسر: كيف ان مثقفاً مصرياً يؤيد النظام السوري، في “حربه على الارهاب”، على أساس ان الجيش المصري، أي النظام الانتقالي، يحارب هو أيضاً الإرهاب؟ مجرد لعبة كلمات متقاطعة…؟ وكيف لا يلاحظ بأن الجيشان اخترعا، كل باسلوبه هذا الارهاب الذي يحاربونه؟
لكن ماذا تفعل؟ منطق القوة غلاب….
ومع ذلك، اقرأ ما كتبته المصرية باسمة الحسيني، مديرة “المورد الثقافي العربي”، على صفحتها في الفايسبوك: “امتحانات: عديت النهارده جنب السفارة الأمريكية، من بعيد شفت مظاهرة صغيرة ولمحت يافطة مكتوب عليها: No to War on Syria اتبسطت وقولت مش مشكلة ان المظاهرة صغيرة، المهم إن الأمريكان يعرفوا إن فيه ناس ضد تدخلهم في سوريا. الزحمة فكت وقربت شوية من السفارة لقيت المظاهرة كلها رافعة أعلام النظام البعثي وعديت جنب واحدة لابسة تريننج سوت شيك وشايلة صورة بشّار. بصراحة جاللي مغص حقيقي، فكرت أفتح الشباك واشتمها بس ما جاتليش الشجاعة في لحظتها والعربيات اللي ورايا قعدت تزمر. ليه يا رب بس لازم الباطل يلبس توب الحق كده على طول؟ ما تبسطلنا المسائل شوية، احنا غلابة والله!”

السابق
الحكومة العراقية تنفي نقل اسلحة كيميائية من سوريا الى العراق
التالي
نعيم قاسم يخير اللبنانيين: اما مع المقاومة او مع إسرائيل