ما بين التمديد… والتمدُّد

يسعى وزير الداخلية مروان شربل الى مدّ الأمن على مساحة الوطن في زمن التمديد المؤسساتي، فإذ بالأزمات السياسية المتفاقمة على خلفيات مذهبيّة وطائفيّة تتمدّد لتصل الى كلّ قرية ودسكرة. يحرص على تفعيل دور البلديات، ويشددّ على الجانب الأمني، ويطالب بصلاحيات للشرطي البلدي، مع سلاح فردي، ويدعو الى اليقظة والإنتباه، إلاّ أنّ الخبر اليقين يبقى عند رؤساء البلديات الملمين بمجريات الأمور على الأرض.

هناك محاذير خمسة:

أولاً، أنّ مثل هذا التدبير يعني وجود لامركزية إداريّة، وحتى الآن لا شيء من هذا القبيل سوى تنظير بلا تقرير.

ثانياً، الغطاء القانوني، فالمطلوب من الشرطي البلدي ممارسة مهمات أمنية، ما هي حدودها؟، وما هي الصلاحيات الجديدة التي يجب أن تسند إليه؟ ومن يغطيها قانوناً، المجلس البلدي؟ أم وزارة الداخليّة؟ أم المديريّة العامة لقوى الأمن الداخلي؟ أم من؟ ثالثاً، توسيع نطاق الأمن الذاتي، كون هذه الخطوة تصبّ في هذا الإتجاه حتى ولو كان النطاق البلدي مشدوداً الى الإدارة المركزيّة، ومرجعيته وزارة الداخليّة، لأنّ الشرطي البلدي على إحتكاك يومي مع الحساسيات السياسيّة والحزبيّة في القرية، ناهيك عن الإعتبارات المذهبيّة والطائفيّة، ومطالب الناس الضيقة، وطبائعهم، وكيدياتهم.

رابعاً، إختلاف المعايير بمعنى أنّ تدبير الوزير شربل قد يصحّ في قرى منسجمة، من لون سياسي وطائفي واحد، لكن لا يصحّ في قرية او بلدة يوجد فيها تعدّد حزبي وسياسي وطائفي، وآراء متضاربة، وخيارات متصادمة، ومثل هذا التدبير في مثل هذه الأجواء من شأنه أن يفجّر الوضع الأمني في البلدة بدلاً من السعي الى تعزيزه وتحصينه؟

خامساً، أنه يكرّس الأمن الذاتي الحزبي في القرى والبلدات ذات الغالبية الشيعيّة، والتي تدين بالولاء لحزب الله، وخطوة في هذا الإتجاه من شأنها أن تعزّز اللّامركزية الحزبية على حساب مركزية الدولة، ومن دعمها المادي والمعنوي؟

لقد عقد شربل سلسلة إجتماعات مع المعنيّين لمعالجة هذه المحاذير وغيرها، إنه يريد عملاً طوباويّاً، ولكن ليس في البلد من طوباويين، يريد العلاج من تحت فيما العلّة من فوق، هناك أزمة سياسية، واضحة، وإنقسام خطير في البلاد على خلفيات سياسيّة ومذهبيّة وطائفيّة، وعلى رغم ذلك، فإن إقتراحه يحظى بحوافز كثيرة، فالوطن أمام أمواج متتالية من النزوح، بدأت تجتاح كل القرى، والبلدات، والمدن، وتتمدّد في إتجاه كل المناطق الجبلية، والوسطى، والساحلية على حدّ سواء، وكان لا بدّ من ملاقاة كلّ ذلك بإستنفار عام، ودعوة كلّ بلدية الى أن تتصرف وفق حدود إمكاناتها ومواردها لحماية نطاقها الجغرافي.

كان المطلب الأول أن تسجّل البلديات أعداد النازحين الوافدين اليها، نجحت التجربة، وكان هناك تجاوب بنسبة عالية، وتضمّنت تقارير معدّة بمسؤولية وموضوعيّة ومعلومات عن وجود مسلّحين في صفوف النازحين، وتنظيمات أصوليّة، وأن مناطق غير مأهولة قد تحوّلت تجمعات بشريّة “فاتحة على حسابها”، وهذا ما يشير الى خطورة الإنفلاش الأمني، وتفشّي لامركزية القلق، بحيث إنطلقت من المدن لتنتقل الى الأرياف.

وكان لوزارة الداخلية مطلب ثانٍ يتناول الأمكنة، والقدرة على الإستيعاب، في إعتبار أنّ عائلات نازحة تستفيد من “بساط الصيف الواسع” وتقطن البراري، او المغاور، او تحت الجسور. ويبرز التحدي الأكبر عندما ينتهي “الصيف اللهاب، وينساب المزراب”، فماذا بوسع بهذه العائلات أن تفعل؟، وكيف لها أن تتصرّف؟، وهل تقدم على إجتياح المنازل الخالية عنوة، او المدارس ودور العبادة؟.

وكم ستكون ردّة فعل الأهالي رافضة وعنيفة؟ إنّ الإحتكاك إذا حصل قد يأخذ أبعاداً فئوية ومذهبيّة وطائفيّة، ويتجاوز مسألة الإيواء، ليطرح مشكلات أخرى ليست في الحسبان، خصوصاً إذا ما حصلت في مناطق إختلاط، وتنوّع؟!

ويتصل المطلب الثالث بالطلاب، والأعداد الوافدة، إذ إنه لا يمكن مقاربة الرقم مبدئيّاً إلّا بعد إنتهاء فترة التسجيل في المدارس الرسميّة إبتداء من 22 الجاري، وإذا فاق العدد 30 ألفاً، ستكون هناك مشكلة مادية تتمثل بالعجز عن تغطية هذه التكاليف الجديدة، فكيف إذا تجاوز العدد 400 ألف وفق التقديرات الأوليّة للمنظمات الدوليّة ذات الإختصاص؟ إنّ معالجة مشكلة لا يكون من طريق إفتعال كثير من المشكلات.

ومدّ الأمن على مساحة الوطن لا يكون من خلال الأمن الذاتي اللصيق بحساسيات القرى واهلها واحزابها وتنظيماتها. المطلوب أن تحمي الدولة أمن مواطنيها، وليس العكس، وبالتالي لا بدّ من حكومة تمسك بزمام الأمور قبل فوات الأوان؟!

السابق
اكتشاف بحيرات تحت الأرض
التالي
أول برج ‘لا مرئي’ في العالم