جولة مواد متفجّرة في بيروت والضــاحية

أجرت «الأخبار» تجربة اختبار لمدى فعالية أجهزة كشف المتفجّرات المستخدمة في لبنان. وُضِعت قنابل يدوية وأصابع ديناميت وفتيل صاعق في سيارة جالت على مراكز تجارية وأمنية تستخدم الأجهزة المذكورة، كما دخلت السيارة الضاحية الجنوبية. إليكم نتيجة الاختبار
تجتاح فوبيا السيارات المُفخّخة لبنان، لكن تجتاحه أكثر أجهزة كشف المتفجرات. في المراكز التجارية والأمنية والشركات الخاصة، يُطالعك رجلٌ يحمل قطعة بلاستيك سوداء يخرج منها قضيب حديدي على شكل هوائي، تكاد تكون أقرب شكلاً إلى جهاز الراديو القديم. يطلب إليك حامل الجهاز التوقف، ثم يؤدي بقرب السيارة ما يُشبه «المشية العسكرية» قبل أن يسمح لك بالدخول. قد يتحرّك القضيب الحديدي نحوك، فيسألك حامل الجهاز إن كان في السيارة زجاجة عطر أو قرص مُدمج، ثم يدعك تتابع سيرك، أو ربما يظن أن في سيارتك متفجرة فيفتشها. كيف يُعقل لجهاز كهذا أن يكتشف المتفجرات؟ ماذا يوجد في داخله؟ ما مدى فعاليته؟ هل هو أقرب إلى أجهزة السكانر أم أنّه يعمل على ذبذبات إلكترونية معينة أو يلتقط أبخرة المتفجرات فيحرك «أنتينه»؟ هل كلّ الأجهزة تُشبه بعضها البعض أم هي مختلفة؟ أسئلة ربما راود بعضها معظم من شاهدوا الرجل صاحب المشية العسكرية، لكنّ قلة من أولئك الذين يعلمون كيفية عملها. أسئلةٌ عديدة أُعيد طرحها على وقع التقارير الإعلامية العالمية التي تحدّثت عن «فضيحة أجهزة كشف المتفجّرات».

إذ أجريت تجارب مخبرية على عدد من هذه الأجهزة وعُرضت على خبراء أجمعوا على أنّ هذه الأجهزة ليست أكثر من «قُمامة» وأن ما تُقدّمه خدمة وهمية وأمان موهوم، علماً بأن أسعارها تصل إلى عشرات آلاف الدولارات. لهذه الغاية استعانت «الأخبار» بصديق وضع في سيارته قنابل يدوية عدة وأصابع ديناميت وفتيل تفجير وصاعق. لم يُخبّئ الصديق هذه المتفجرات، بل وضعها في «تابلوه» السيارة الأمامي. صعدنا معه في سيارته، ثمّ قمنا بجولة على عدد من المراكز التجارية واجتزنا حواجز أمنية، بعضها تابعٌ للجيش اللبناني وأُخرى يتولّاها عناصر انضباط من «حزب الله» في الضاحية الجنوبية. وكان الصديق قد حصل على أصابع الديناميت من صيّاد سمك، فيما استعار القنابل والفتيل الصاعق من أحد تجّار السلاح في بيروت.

أردنا التثبّت من مدى فعالية هذه الأجهزة، علماً بأن ما هو في «التابلوه» يُستخدم لتصنيع عبوة ناسفة أو لاغتيال أحد ما أو قتل مجموعة من الناس بواسطة القنبلة اليدوية. هكذا بدأت الرحلة، فتمكّنّا من الدخول إلى معظم المراكز التجارية الضخمة في بيروت وضواحيها، وصولاً إلى ساحل كسروان. مرّت السيارة على الجهاز الذي يُزعم أنّه لكشف المتفجرات، لكنّ القضيب المعدني بقي ساكناً. تكرّر الأمر في غير مركز. المرّة الأولى كانت الأصعب، لكن لو حصل أن ضُبطنا فكنا سنُبرّر ذلك بالعمل الصحافي. وهكذا ركنّا السيارة داخل هذه المراكز. أردنا المغامرة أكثر، فقررنا الدخول إلى الضاحية الجنوبية. اجتزنا حاجزين للجيش اللبناني على مدخلي الضاحية المتقابلين من جهتي مخيم برج البراجنة وحي الأميركان في محلّة الصفير. ورغم عشرات الحواجز التابعة للحزب المنتشرة فيها، تمكنّا من المرور عليها جميعها. فالشباب هناك يُفتّشون، في معظم الأحوال، صناديق السيارة فقط، دونما الالتفات إلى مخابئ سريّة محتملة شبيهة بتلك التي عُثر عليها في سيارة الناعمة المفخخة، والتي تبيّن أنّ فيها مخبأً مخفياً في المقعد الخلفي يحوي كمية كبيرة من المتفجرات. الرحلة لم تنته هنا. ركنّا السيارة في الضاحية، ثمّ ترجّلنا منها. وعندما عُدنا صباح اليوم التالي. كان هناك شابٌ يرتدي نظارات شمسية يحمل جهازاً شبيهاً بذلك المنتشر أمام المراكز التجارية، لكنّه كان أكبر حجماً. استبشرنا خيراً، إذ قد يكون الجهاز فعّالاً، لكنّ أملنا خاب. فقد مرّ الشاب المذكور بالمشية المعتادة بالقرب منّا من دون أن يتحرّك «أنتين» الجهاز الذي يحمله. أكملنا طريقنا، فيما القنابل اليدوية وأصابع الديناميت والفتيل والصاعق كانت لا تزال داخل السيارة.
فشلت هذه الأجهزة في الاختبار، لكن ربما يكون هناك أجهزة أكثر فعالية. حملنا قصّتنا إلى ضابط في جهاز أمني رسمي، خبير في مجال المتفجرات. سألناه عن جدوى هذه الأجهزة، فردّ ضاحكاً بأنها «ضحك عالدقون». في البداية، شرح لنا كيفية عمل هذا الجهاز. أخبرنا أنّ الشركة تُعطيك شرائح مختلفة تُستخدم للإنباء عن نوع متفجّرة . فهناك شرائح للـ«تي أن تي» وأخرى للـ«أر دي إكس» وغيرها للـ«سي 4». ثمّ أخبرنا عن اختبارٍ أُجري في الجيش على هذه الأجهزة، كاشفاً أنه جرى فتحها فتبيّن أنها فارغة. وأشار إلى أنّ ما وُجِد في داخلها يُمكن أن تجده داخل أي لُعبة أطفال، لافتاً إلى أنّ شراء هذه الأجهزة كشف عن وقوع أجهزة رسمية لبنانية ضحية احتيال. وفي هذا السياق، يُستعاد حكم صدر منذ أشهر في لندن قضى بسجن رجل الأعمال البريطاني جيمس ماكورماك عشرة أعوام لبيعه نسخاً مقلدة من أجهزة لكشف المتفجرات لزبائن من بينهم العراق وأفغانستان ولبنان. وذُكر حينها أن الجهاز المحمول باليد، والذي يكون بأشكال متعدّدة على طرفها «أنتين»، ليس له القدرة على ما ادّعي له من وظائف. يُشار إلى أن محطة «بي بي سي» البريطانية أجرت تحقيقاً ميدانياً خاصّاً استعانت فيه بخبراء متخصصين من جامعة كامبريدج ومختبرات متخصصة أجروا فحوصاً على هذا الجهاز والشرائح المزوّد بها. وخلصوا إلى أنّ الجهاز المذكور عديم الفعالية نهائياً. أما المواد التي يُصنّع منها فلا يتعدّى ثمنها بضعة دولارات. وقد أُجريت في هذا التحقيق مقابلة مع ماكورماك لاستعراض الجهاز، ولدى كشف زيف ادعاءاته تجنّب مواجهة المراسلة الصحافية بعدها.

السابق
أي لبنان بعد الضربة العسكرية؟
التالي
سوريا.. الآن التفاصيل