المأزق بالضربة أو من دونها

ليست شعوب الغرب من يشن الحروب علينا. منذ حرب فيتنام اتسع الرأي العام الغربي المناهض للحرب خاصة في أميركا. قرارات الحرب اتخذتها الإدارات السياسية والعسكرية وليس الشعوب. في 11 أيلول 2001 وقف الشعب الأميركي غاضباً خلف إدارته رداً على اعتداء تعرض له أمنه الداخلي. لكن الشعوب لم تسأل رأيها في معظم الحروب خاصة الهجومية. ما نعرفه أن شعوب الغرب عبّرت عن إرادتها في الخروج من العراق وأفغانستان. انتخاب الرئيس باراك أوباما نفسه كان تأييداً للخروج من الحرب. حين يحصل نقاش واسع في الدول الديموقراطية الغربية، في الإعلام أو في البرلمانات، لا نتوقع تأييداً قوياً للحرب. هناك مجتمعات منشغلة بأولويات تقدمها الاجتماعي وأمنها واستقرارها، فضلاً عن معالجة مشكلات داخلية ناتجة عن الحروب وسباق التسلح.
هذا النقاش الدائر في المؤسسات الغربية الديموقراطية هو حاجة داخلية، لأن كلفة الحرب تقع على الشعوب وتؤثر في خياراتها السياسية.
أن يلجأ الرئيس الأميركي إلى تفويض من ممثلي الشعب مسألة تخص نظامه السياسي ومستقبل حزبه وما قد تعنيه الحرب الآن من دور قيادي لأميركا في نظام عالمي يخضع لمنافسة شديدة. قيل إن أميركا تنكفئ عن الشرق الأوسط لتركيز جهودها في مواجهة العملاق الصيني. هذه فرضية خاطئة أو على الأقل تصبح خاطئة حين يحاول أن يملأ الفراغ في المنطقة أقطاب دوليون أو تتوسع فيها أدوار القوى الإقليمية على حساب النفوذ الأميركي.
الرئيس الأميركي لا يستأذن ممثلي الشعب للقيام بعملية عسكرية هي في صلب صلاحياته الرئاسية، بل يعيد تكوين خيارات في السياسة الخارجية في مواجهة الروسي والصيني وعدم وحدة الموقف مع أوروبا الغربية، وما أصبح متداولاً في السياسات العالمية عن حرب باردة جديدة. لا يمثل الخلاف الأميركي الروسي حول سوريا إلا جزءاً بسيطاً من الصراع الدولي. فحين تتشدد روسيا في موقفها إلى هذا الحد في سوريا فإنما يعكس ذلك حجم الخلافات على ملفات دولية كثيرة.
وقف باراك أوباما حائراً وتراجع عن فكرة «الضربة المحدودة» التأديبية أو العقابية في سوريا، لأن الجدوى من تلك العملية المحدودة ضعيفة جداً وقد لا تعطي أية نتائج سياسية مؤثرة في الصراع. سوريا الآن ليست يوغسلافيا السابقة، وليست دولة معزولة عن التداعيات الإقليمية. فإذا لم تكن الضربة مؤثرة على الحلفاء الإقليميين والدوليين فسوف تكون تعميقاً للأزمة وتوسيعاً لدائرة العنف والفوضى. بهذا المعنى يحتاج أوباما إلى تفويض شعبي أو إلى توافق الحزبين (الديموقراطي والجمهوري) من أجل عمل عسكري أقوى وأكثر فاعلية قد يتدحرج إلى حرب إقليمية. ما يعد به الأميركيين هو عدم التورط في حرب برية ليس إلا، لكنه يدرك أن استيعاب الضربة العسكرية بعدم رضوخ خصومه سياسياً يحتاج إلى توسيع العمليات العسكرية وربما الدفاع عن حلفائه أو زجهم في المواجهة. وفي المقابل يعرف خصوم أوباما أن التفويض السياسي الشعبي إذا حصل عليه فهو سلطة استثنائية لعمل تدميري واسع. هكذا يلعب الجميع على حافة الهاوية مع الاحتفاظ بحق البحث عن مخارج ليس من بينها «هزيمة الإمبريالية» ولا التسليم للآخرين في المنطقة أن يتصرفوا بها كما هي الآن بتهديد العالم بالفوضى. ليس من حتميات لكن مأزق المنطقة أكبر وأعمق من الحديث عن ضعف الإمبراطورية الأميركية.
هذا المأزق لا تحلّه نظرية الأولويات بين الداخل والخارج، ولا المفاضلة البشعة بين الاستبداد والاستعمار. إن المسألة كانت ولا زالت في بناء مجتمعات ودول على مبدأ الحرية، فلا تقاوم الاستعمار بالعبودية، ولا تزيل العبودية بالاستعمار. فالمشكلة اليوم أنك لا تستطيع مقاومة الهجمة الاستعمارية بمجتمعات منقسمة على نفسها، ومتناحرة على هوياتها الفئوية، ومتوجسة بل ممزقة بما يطاولها من العنف المتبادل ومنطق القوة، وهي ضحية للإرهاب والترهيب من داخلها وبين جماعاتها السياسية.
نحن في مجتمعات لا تحتكم إلى الحوار والديموقراطية والتفاوض وكل وسائل السياسة الحديثة، بل إلى منطق الغلبة والعصبية والقوة. ولقد صارت القوة في مرتبة القتل والتصفية والتفجير والإقصاء والإلغاء فلا مرجعية سلمية لإدارة شؤوننا وخلافاتنا. وها نحن اليوم أمام موجة من العنف تعد بها المرحلة المقبلة فلا نعرف كيف نجتمع على أمر بما في ذلك أمننا واستقرارنا والدفاع عن وجودنا كشعوب. ومن الظاهر الجلي أن العدوان الغربي الجديد لن يحل مشكلة كهذه بل يغذيها ويوسع نطاقها ويفتح لجماعات العنف والتكفير والإلغاء من كل حدب وصوب لكي يبرّروا لأنفسهم ذلك.
وليس لنا أن نسأل اللبنانيين المتدخلين في الأزمة السورية عن مشروعهم وعن مصيرهم طالما هم لا يعرفون كيف يحلون مشكلات بلدهم وليسوا مستعدين لأدنى التضحيات السياسية، إذا كانت تضحيات، من أجل سلامة بلادهم وأمنها واستقرارها وحياة شعبها.
هم أنفسهم يتحدثون عن الحريق الآتي والمتطاير إلى جوار سوريا وكأنهم بذلك يحققون إنجازاً إذا خربت بلاد ودول أخرى. أو يعتقدون أن مواجهة الخارج بالمزيد من الفوضى والمزيد من الكوارث الإنسانية. هذه قوى وجماعات خارج السياق التاريخي وخارج فكرة التقدم الإنساني. إن المعيار الأساسي للحرية والعدالة والكرامة الإنسانية والوطنية هو في المجتمعات التي لا تقوم علاقاتها على العنف والغلبة والقهر والاستبداد. وهي التي تنشغل في تقدمها الاجتماعي وما يستجره من تقدم في الميادين الأخرى بما في ذلك بنيتها العسكرية للدفاع عن أمنها ووجودها. فهل ندرك أن العدوان علينا من الخارج يتكرر لأننا لا نعرف كيف تجب مقاومته؟

السابق
الشهال: منقارة خلع ثيابه وتبرأ من جلده كخادم لقوى 8 آذار
التالي
انتشار إسرائيلي خلف بوابة العباسية