العلاَّمة الشيخ علي سويدان (قده): مجاهدُ رِّساليُّ نَّبيل

الشيخ علي سويدان في ذمة الله
نزح وعائلته إلى بيروت، وهناك فوجئَ بأشخاص كانوا يدّعون الجهاد والمقاومة من على المنابر بينما هم في الحقيقة يسعون لقطف ثمار الانتصارات، حاول الرجوع إلى الجنوب مفضلاً خطر الموت والاستشهاد، وأن يكون في قلب ساحة الجهاد الحقيقي على أن يبقى في بعض أجواء الجهاد المزّيف، لم يتسنّ له الرجوع رغم محاولته ذلك، فقد منعه العدو الإسرائيلي من ذلك عند محاولاته العبور والعودة مجدداً للجنوب.

ولد العلامة الشيخ علي سويدان في العام ١٩٤٥ في قريته ياطر، في جبل عامل من عائلة متواضعة، والداه كانا يعملان في زراعة التبغ والحبوب، لم يكن آنذاك في القرية من مدرسة للتعليم، لذا فإنه تعلَّم القراءة على كتاتيب تعليم القرآن الكريم، إلى ان عينت الحكومة اللبنانية سنة ١٩٥٠ أستاذاً، بناءاً على طلبٍ من أهالي القرية، وتعاون حينها أهل القرية على تأمين مكان للدراسة، ولقد ثابر الشيخ علي سويدان (قده) على الدراسة وكان من التلامذة المميزين في اللغة العربية. كانت قراءته للقرآن الكريم في صغره حافزاً له للسعي لمعرفة أصول دينه وفروعه. كان منذ شبابه يدوّن العديد من مذكراته التي تحتوي على الكثير من القصص التي تسرد لنا مسيرته العلمية والعملية والتي تروي الكثير من معاناته التي مّر بها خلال حياته.

ثلاثة أعوام

تابع دراسته في تلك المدرسة المتواضعة إلى أواخر عام ١٩٥٦، وكان همّه الوحيد آنذاك السفر إلى النجف الأشرف لتلقي العلوم الدينية، لم يكن بوسع والديه آنذاك تأمين المتطلبات المادية لهذا السَّفر، حينها قرر الذهاب إلى بيروت للعمل هناك، حيث استطاع وبعد حوالي ثلاثة أعوام من الجهد والعمل المتواصل، أن يدّخر من المال ما يمكّنه من السفر إلى النجف الأشرف.

في أواخر عام ١٩٥٩ التحق بالحوزة الدينية في النجف الأشرف، ابتدأ بدراسة العلوم الحوزوية على العلامة السيد محمود الهاشمي وتتلمذ على العديد من الفقهاء والمجتهدين أمثال السيد محسن الحكيم والسيد أبو القاسم الخوئي والسيد الشهيد محمد باقر الصدر رضوان الله عليهم.

في أواخر عام ١٩٧٨ تعرض الشيخ علي للمضايقة من قِبل جهاز استخبارات حزب البعث العراقي المجرم لمواقفه الجريئة ضد القمع الذي كان يمارسه ذلك الحزب آنذاك، على طلاب الحوزة وخصوصاً أولئك الذين كانوا يجهرون بمعادات نظام صدام حسين المجرم، وانتهى المطاف بالشيخ علي حينها إلى السجن حيث عُذّب أقسى أنواع العذاب وتم بعد ذلك ترحيله إلى لبنان، حيث كانت أولى محطاته التبليغية في قرية عين بوسوار في إقليم التفاح حيث عُيّن إماماً للبلدة آنذاك. ولقد كان الشيخ علي من المقرّبين من الإمام السيد موسى الصدر، وكان من بين العلماء والجموع التي واكبت الإمام إلى المطار قُبيل مغادرته إلى ليبيا.

نصير الثورة الإسلامية

في سنة ١٩٧٩ ومع بداية نهوض الثورة الإسلامية في إيران كان الشيخ علي سويدان من بين المتحمسين والداعين لتلك الثورة ومن الداعمين لنهج الإمام الخميني، وكان من أوائل الوفود اللبنانية التي قامت بزيارة الجمهورية الإسلامية في إيران وتهنئة مرشدها شخصياً بانتصار الثورة.

انتقل مع عائلته إلى بلدة الزرارية في سنة ١٩٨١، وبعد ذلك بعام، قام العدو الإسرائيلي باجتياح جنوب لبنان حيث وجد الشيخ (قده) نفسه في أسمى مواقع الجهاد ضد أعداء الأمة والإنسانية، عندها شعر أن باب الجهاد قد فُتح له ليؤدي رسالته السامية والنبيلة بالتصدي للاحتلال، وكان رحمه الله على صلة وثيقة وتعاون وتنسيق بينه وبين علماء تلك الحقبة من أجل مقارعة العدو الصهيوني، وكان من أبرزهم في تلك المرحلة شيخ الشهداء الشيخ راغب حرب، فقد كان (رحمه الله) يتنقل بين القرى في الجنوب ويعتلي المنابر في المساجد والحسينيات ويندد بالاحتلال ويدعو لمقاومة الاحتلال.

مواقف مشهودة

في أواخر سنة ١٩٨٣ انتقل مع عائلته إلى بلدة جباع في إقليم التفاح. في تلك الأثناء قام العدو الإسرائيلي باعتقال الشهيد الشيخ راغب حرب، عندها أقيمت الاعتصامات والاحتجاجات في معظم قرى الجنوب تنديداً بهذا الاعتقال، وكان العدو يسعى حينها لفك تلك الاعتصامات بقوة السلاح وترهيب المعتصمين، واستقدم العدو آنذاك العديد من الآليات العسكرية والجنود لفك الاعتصام في حسينية جباع، ولا زالت حسينية جباع ومسجدها وأهلها إلى يومنا هذا يتذكرون المواقف البطولية التي واجه بها الشيخ علي سويدان تلك القوة العسكرية العاتية بصدره العاري وبكلماته التي ألقاها من على مأذنة المسجد، بعد أن عطّل العدو أجهزة مكبرات الصوت بعد إطلاق النار عليها لترهيبه، حينها رفض الشيخ علي مصافحة الضابط الإسرائيلي الذي همَّ بمصافحته، فقد كان موقفه هذا موحّداً مع موقف شيخ الشهداء بأن الموقف سلاح والمصافحة اعتراف. وتوالت من بعد ذلك مواقف الشيخ علي في مناطق عديدة من الجنوب، وعلى سبيل المثال وليس الحصر، ففي قريته ياطر في سنة ١٩٨٤ عندما استشهد ثلاثةٌ من أبناء شقيقه على يد العدو الإسرائيلي، وخلال مناسبة إحياء ذكرى أسبوع على استشهادهم اعتلى الشيخ علي سويدان منبر حسينية ياطر، وكان يخطب في الجموع ويندد بالاحتلال ويدعو بأعلى صوته لمواجهة العدو الصهيوني، حينها وفي منتصف الخطبة أشيع بدخول دورية إسرائيلية عند مدخل ياطر، وساد جوٌ من الذُعر والخوف عند بعض الحاضرين آنذاك، فأبى الشيخ النزول من على المنبر، واسترسل في خطبته شاهراً مسدسه وقائلاً للجموع (والله لإن تجرأوا على دخول البلدة فسوف أقاتلهم بسلاحي هذا).

رسائل تهديدية

وتوالت مواقفه الجريئة ضد الاحتلال، إلى حدٍ وصل بالعدو الإسرائيلي إلى إرسال رسائل مباشرة وغير مباشرة وتهديده بتصفيته جسدياً على غرار تصفية شيخ الشهداء الشيخ راغب حرب، وفي هذا الإطار وعلى تخوم بلدة قانا قامت دورية إسرائيلية بتوقيفه شخصياً وكان يومها برفقة أحد أبنائه، حيث أوقفته تلك الدورية وترجّل منها الجنود الإسرائيليون وقاموا بإحاطته من كل جانب، حينها تقدم ضابط الدورية ليقول له: لقد طفح الكيل منك يا شيخ علي وبات ملفّك لدينا لا يُحتمل من كثرة ما يحتويه، فما كان من الشيخ علي إلا أن رد عليه بقوله: إن كُنتَ مرهقاً من حمل الملف فدع هؤلاء الجنود يساعدونك في حمله، وبعد جدالٍ بينه وبين ذلك الضابط، قال له الضابط إنّ أيامك معدودة وكن على حذر أنت وعائلتك.

لم تثن تلك التهديدات المباشرة الشيخ علي عن متابعة جهاده ضد العدو الإسرائيلي، فقد ظل يتابع نشاطه دون تلكؤ، إلى أن توالت الاتصالات والرسائل من بيروت من جهات دينية وسياسية، تحثه على المجيئ إلى بيروت لخطورة التهديدات، وكانت تلك الرسائل تنوّه بمواقفه الجريئة والبطولية وتحفزّه للقدوم إلى بيروت حيث أن بقاءه بعيداً عن خطر التصفية وجهاده من خارج دائرة الخطر أجدى وأنفع للمقاومة.

نزوح قسري

فما كان منه إلا أن نزح وعائلته إلى بيروت، وهناك فوجئَ بأشخاص كانوا يدّعون الجهاد والمقاومة من على المنابر بينما هم في الحقيقة يسعون لقطف ثمار الانتصارات، حاول الرجوع إلى الجنوب مفضلاً خطر الموت والاستشهاد، وأن يكون في قلب ساحة الجهاد الحقيقي على أن يبقى في بعض أجواء الجهاد المزّيف، لم يتسنّ له الرجوع رغم محاولته ذلك، فقد منعه العدو الإسرائيلي من ذلك عند محاولاته العبور والعودة مجدداً للجنوب.

استمر طيلة إقامته في بيروت بالتبليغ وإعطاء الدروس الدينية، وكان من بينها دروس فقهية وتثقيفية لكوادر حركة أمل في “ثكنة حمية” وفي برج البراجنة.

حادث أليم

في بداية سنة ١٩٨٩ تلقّى دعوة للتبليغ في أميركا الشمالية في ولاية إنديانا، وهناك قام ولمدة سنتين بإمامة المسجد. كان في أوقات فراغه في بلاد الغربة يدّون تجاربه وذكرياته، وينظم الشعر الذي أتاح له التعبير عن معاناته بعيداً عن أهله وعن أرض الوطن.

عاد في أوائل الشهر الثامن من عام ١٩٩١ لزيارة أهله وعائلته في لبنان، وحينها كان الوداع الأخير بينه وبين زوجته وابنه الأصغر رضوان وابنته الصغرى آمنة حين وافتهم المنية بحادثٍ أليم في تركيا وهم في طريقهم لزيارة العتبات المقدسة في إيران، وكان لهذا الحادث الأثر الكبير في نفسه وفي نفوس عائلته بشكل خاص في نفوس جميع ممن عرفهم عموماً.

قضى الشيخ علي سويدان معظم حياته في خدمة دينه ووطنه، وكانت له محطات عديدة في بلدان الاغتراب، فقد زار أكثر من ثلاثين بلداً عربياً وأجنبياً خلال مسيرته التبليغية، واستقر به المطاف في أواخر سنين عمره في بلدة شوكين قضاء النبطية، حيث كان يقضي أوقاته في التعمق في المطالعة وكتابة الشعر والأدبيات، وكذلك كانت له نشاطات اجتماعية وثقافية في محيط منطقته.

في الأشهر الأخيرة من حياته أصيب الشيخ علي سويدان (رحمه الله) بمرضٍ عضال، عانى خلاله الكثير من الألم ولكنه في نفس الوقت كان مؤمناً بقضاء الله وقدره، وكان يردد دائماً في أيامه الأخيرة أنه على استعداد وراحة تامة لملاقاة الله سبحانه. كان الكثير من العلماء والأصدقاء يتوافدون لزيارته وتفقد أحواله خلال معاناته، وكان من أبرزهم صديقه وخليله ورفيق دربه العلامة السيد محمد حسن الأمين، حيث أن علاقة الصداقة والمودة بينهما تعود لأكثر من خمسين عاماً. ترك الفقيد العديد من القصائد والنثريات في أغراض متنوعة.

ومما قاله في رثاء زوجته وأولاده:

ويممت بروحي مع جسدي المحموم/ أرض بلادي/ تتقاذفني رياح العودة من منفاي/ فأحث على الدرب خطاي/ بالرغم من كل الأوجاع/ فلعلي ألقى سفينة أحبابي قبل الإقلاع/ هذي روحي قد وصلت قرب الشطآن/ لكن قد أقلع في سفينته الربان/ وشاهدت عن بعد آمنة مع رضوان/ وأمهما تلوح بالمنديل الأسود/ وتودعني بالكلمات الأبدية/ وللسفر الأبدي كلمات وعلامات/ لا يفهمها غير الملتاع/ رحماك إلهي إلامَ أعيش طويلا/ وأنا قبل رحيل الأحباب أودّ رحيلا/ رحماك إلهي أخذت حمائم روحي/ خذني… ما عدت أطيق مقيلا/ فالروض قد ذبلت فيه الأغصان/ وبلابله قد هجرت والأيكة قد يبست/ فكيف تطيب الألحان/ أأسكن في وادٍ جفت منها الغدران/ فيما أطفئ حر الشوق وحنيني/ إن شبّت فيه النيران…….”

انتقل الفقيد إلى رحمة الله ورضوانه في ٦/٨/٢٠١٣ المصادف ٢٧ من شهر رمضان المبارك عن عمرٍ يناهز الـ ٦٨ عاماً، بعد مضاعفات ألمّت بحالته الصحية جراء عملية جراحية لاستأصال المرض. توفي (قده) وله ثلاثة أبناء وخمسة بنات والعديد من الأحفاد. وقد ووري الثرى في مسقط رأسه ياطر في ٧/٨/٢٠١٣، وحضر التشييع عدد كبير من العلماء وحشد غفير من أهالي البلدة ومن سائر المناطق الأخرى، حيث صلى على جثمانه سماحة العلامة الشيخ مفيد الفقيه.

كما أُقيم مجلس عزاء حسيني عن روحه في المعهد الفني الإسلامي في بيروت بحضور العديد من السادة العلماء الأفاضل وعدد من النوّاب والشخصيات السياسية والمحبين والأقارب.

 

السابق
الخليل لبري : توقف عن التخريب في الشأن الحكومي
التالي
ملف: الحزبية الغائبة في صراع المغانم