بائع الموت في سوق الحميدية

فيما هو يتجوّل حاملا على ظهره علبته المعدنية الفارعة ذات اللون الفضي أو الذهبي وينقر عليها بقطعة معدنية صغيرة في يده مطلقاً “موسيقى” اصطدام المعدنين ، يصرخ بائع السوس والتمر الهندي في سوق الحميدية:

” بَرْدْ بَرْدْ بَرْدانِه… إنتِ لِيشْ زعْلانه؟”.
في هذا الترويج لبضاعته- وقد سمعته شخصياً مرةً في دمشق- لا يعلن بائعُ السوس عن بضاعته مباشرةً، بل هو يخاطب هذه البضاعة الموجودة داخل علبته الجميلة دون أن يخاطب الجمهور العابر والواقف قربه وحوله. في ندائه هذا يعاملها كحسناء مغناجة والغضب جزءٌ من غنجها. بهذا يعْرضها كشيءٍ جذّاب ومنعشٍ في حر الصيف أو في برد الشتاء.
كيف يعرض بائع الموت بضاعته في السوق السوري اليوم، السوق الذي بات هو كل سوق وقرية ومدينة في سوريا؟
للموت جاذبيته على غير الموتى! غالبا ما يكون زبائن ترويجه إما من “النخبة”( وهذا هو الاسم المتوفّر في اللغة العربية) السياسية أو من الرُعّاع الذين لا يمكن للحرب الأهلية أن تصبح حربا أهلية من دون دورهم على الأرض، الدور الذي تُطلِق أسماءَه الحسنى النخبة السياسية العسكرية الأمنية الحزبية الجهادية الليبرالية الفاشية إلخ…
الموت لا يُعلَن في الترويج للحرب بصفتِهِ موتاً بل بصفته ولادة. في الحروب الأهلية لا يَقتل ولا يُنكِّل في رأي النخبة وإعلامها سوى… العدو.
قال لي أمس صديقٌ مصريٌّ: الجميع تكفيريّون، العلماني والإسلامي، اليساري واليميني.
إذا كان هذا صحيحاً، فكلُّ تكفيريّةٍ لعبت دوراً تدميريّاً في تاريخنا الحديث الذي يبدو اليوم مسارا من تحويل الدول إلى أشلاء ومن تحويل ماضي ثقافة سياسية بكامله إلى مقابر.
في لغة النخبة السورية المتصارعة اليوم، سوريا مقابر غَنّاء. إما مقابرُ – حدائقُ مستقبلية “ممانعة” وإما مقابرُ- حدائقُ مستقبليّةٌ “ديموقراطية”.
تكفيريّون وطنيّون وتكفيريّون ديموقراطيّون، تكفيريّون تكفيريّون وتكفيريّون غير تكفيريّين، تكفيريّون كيميائيّون وكيميائيّون تكفيريّون. يحملون أحلامَهم وطموحاتِهم وأحقادَهم ومصالحَهم إلى سوق الموت الذي يستعد الآن للانتقال إلى مرحلة تكفيرية كيميائيّة دوليّة.
ربما لا يزال بائعُ السوس يطلق “قصيدته” في سوق الحميدية، وهي فنّياً قصيدةٌ كاملة من حيث قوتها الشِّعرية، ووثيقة أصيلة في قوّتها الدلالية سوسيولوجياً من حيث أناقة الشام ومَكْرُها وذكاؤها : “بردْ بردْ بردانه… إنتِ ليشْ زعلانه؟”
أما بائعُ الموت… باعةُ الموت في لحظة تَحَوُّلِ الكرة الأرضية إلى “سوق حميديّة” فهو الآن في لحظة الذروة من كتابة الجحيم الذي بات هو أهم ما في كتاب تاريخنا الحديث.

السابق
الضربة الاميركية: ايران وتركيا حاسمتان والعرب مترددون
التالي
كيري يلغي اتصالا مع لافروف قبل خطاب أوباما دون تقديم الأسباب