الذئب والغنم ومخلوقات أخرى

الاستراتيجية الغربية حيال الوضع في سورية بسيطة، يلخصها مثل شائع في بلادنا: «لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم». وهو ما يعود الغربيون إليه الآن، بخصوص الضربة التي يهندسون لتسديدها للسلطة هناك (وهذا النص كتب قبل وقوعها، مفترضاً أنها وشيكة). لا جديد إذاً سوى أننا نجتاز عتبة أخرى في مسار هذا التغول العام. الغربيون ارتاحوا لمنطق «لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم» خلال السنتين ونيف المنقضيتين، حينما تأكد لهم ـ وهو ما حصل بسرعة ـ أن هناك حقاً استعصاء مزدوجاً يتمثل باستحالة نجاح النظام في القضاء على الانتفاضة الشعبية، واستحالة إسقاط هذه الأخيرة للنظام. وأسباب ذلك كثيرة، تاريخية وبنيوية وعملية.
ثم راح يتضح كل يوم كيف أن سياق الأحداث في سورية متفلت تماماً من رغبات وإرادات أبطاله ومن يقف معهم ويساندهم. فلا المخططات السينيكية للروس، وتوفير خبرتهم القمعية الطويلة، أفادت السلطة السورية التي كانت تتقدم هنا لتتراجع هناك في محصلة صفْرية، بحيث لم يتبق من هذا كله إلا البشاعات القصوى التي فاقت تماماً أغراض توظيفها في إحكام القمع والترويع. ولا الغرب تمكن من تقديم معارضة مشذبة مهذبة مهندمة، «حضارية»، من تلك التي تصلح للتباهي بها، بل أصبحت هذه المحاولات (المتكررة) وشخوصها كاريكاتورية ومدعاة للسخرية، بينما طافت تقاليد «القاعدة»، تلك التي تبيح أكل الكبود والإعلان بأنها «العين بالعين»، على وجه بركة من الدماء الغليظة.
غض الغربيون الطرف، عجزاً ولامبالاة، لا سيما وأن القوم يتناهشون، فلا يموت الذئب ولا يفنى الغنم. كانت «حرباً محتواة» مثالية. ولكن الدوام للخالق وحده، وكذلك الكمال، وكان لا بد من غلطة في سياق التداعيات. ولعل من جرّب رمي كميات محدودة من الغاز الخانق قبلاً تجاسر وظن أنها تمر، مما يجبر الغربيون اليوم على عمل ما، إحراجاً وليس لأنهم أخلاقيون. فهم مخترعو غاز السارين وما هو أفظع منه، ومستخدمو كل ذلك في الحروب بل في أحوال السلم ولدواعي التجارب. ومِن ذلك قنبلتا هيروشيما وناغازاكي النوويتان الأميركيتان، وقد ألقيتا على عموم الناس في اليابان، بينما كانت الحرب العالمية الثانية انتهت ولم يكن لهما أي «داعٍ»، (على فرض إمكان إيراد هذه الحجة البشعة)، ومنها التجارب النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية، وفي كاليدونيا الجديدة، أي على الشعوب المستعمَرة المغلوبة على أمرها، وهي ما زالت تدفع أثمان تلك «التجارب» في الزرع والضرع والبشر. ومنها إبادة شعب الماوماو على أيدي الإنكليز في كينيا، مما أقرت به مؤخراً المحاكم البريطانية وألزمت الحكومة الحالية بتعويض أهالي الضحايا. ومنها الأميركيون مجدداً، وحدث ولا حرج على ما ألقوه في فيتنام من نابالم حارق، ومن «العامل البرتقالي» الذي ما زال للآن يقتل، واليورانيوم المنضب في العراق الذي سيستمر في القتل والتشويه لقرون. ولم يمتنع الإسرائيليون عن إلقاء الفوسفور الحارق على الناس في غزة البارحة، منذ ثلاث سنوات ونيف، بينما القطاع شريط ضيق ومحاصَر. لا دروس إذاً يمكن استقبالها من هؤلاء المتوحشين، وإن ارتدوا ربطات عنق أنيقة.
ولكن ذلك لا يبيح بحال التوحش! ثم أن وحشية النظام السوري ووحشية جبهة النصرة وأقرانها لن تُغسلا بمجرد تلقيهما صفعات من الوحش الأكبر. ومن يشأ الاختيار بين الوحوش فهذا شأنه! ومن يريد الاستمرار في الكذب على نفسه، فهذا شأنه أيضاً، لأن ما انكشف مجدداً هو النظام العام المهيمن برمته، مهدداً (مجدداً كذلك) إنسانية البشر، علاوة على مصيرهم المادي.
فلنعد إلى «الواقعية». هي ضربات محسوبة بميزان الذهب، بحيث لا يموت الذئب الخ… فكيف سيستقبل صانعوها اليوم الذي يلي؟ هل يعودون إلى أشغالهم العادية وهمومهم الكثيرة، بانتظار الفرج. وأما النظام السوري، فسيتظلم، وسيسعى لاستثمار «العدوان» عليه كدليل على استهدافه من قبل الاستعمار. ولكن من المرجح أن يكتفي بحركات محسوبة هي الأخرى لحفظ ماء الوجه. ماذا إذاً عن اليوم الذي يلي؟؟ وما سيفعل حلفاؤه، وكيف يحفظون هم مياه وجوههم؟ إلى متى تستمر هذه الحال القميئة؟ ذلك هو الاستعصاء الأكبر، وليس تلك التفاصيل.
يثير هذا الأمر التالي: هناك وضعية كارثية لم يعد من الممكن واقعياً استمرارها. إذ يبدو مجنوناً تماماً أن يرتفع معدل البطالة في البلدان الغربية، تلك الصناعية/ المالية/ الاستعمارية/ الغنية، إلى 27 في المئة، ويتضور الناس من الجوع، بينما تسجل البنوك أرباحاً بالبلايين كل عام، وتزداد ثروات قلة قليلة من رجال الأعمال أصحاب الشركات العابرة للقارات، الذين يحتلون واجهة المسرح ويعاندون بأنهم غير معنيين بمصير الناس (انظر أبسط تعبير عنهم: ما يقوله بكل وقاحة منذ أيام تحالف رجال الأعمال في فرنسا المسمى «ميديف»). وبالمقدار نفسه، وعلى صعيد لم يعد والحال آخر، يبدو مجنوناً انتشار القتل بكل أشـكاله بهـذا الاتـساع والتجدد.
هذه إذاً «استعصاءات» لا يمكنها أن تجد حلها من داخلها، أي وفق المنطق الذي يسيّرها ويحكم آليات عملها. وقد يقال إننا هنا نجمع أشياء ليسـت متشابهة. بل هي كذلك! مثال للتوضيح؟ لقد شنت منذ 2001 حرب شعواء على «القاعدة»، فما هي النتيجة؟ تضاعفت أعداد أتباع هذا التنظيم وأنصاره ومن يحاكيه. كنا في أفغانستان، فصرنا في اليمن والعراق وسورية ولبنان ثم منطقة الـساحل الأفريقي والصحراء الكبرى والجزائر وتونس ومصر… والله أعلم! الخروج من النظام المهيمن والخروج عليه، لم يعد اليوم ترفاً ولا موقفاً ثقافياً أو فكرياً نابعاً عن قناعات مثقفين. بل هو لم يعد ـ كما كان في السابق ـ فعلاً يبتغي تحقيق التقدم أو الوصول إلى عالم مثالي. بل أصبح اليوم ضرورة حياتية، نوعاً من درء الفناء المحدق…
ولعل سورية، بناسها المبتلين الصابرين، تكون هي عنوان اتضاح الاستحالة التي نواجه، كَشّافها، فيعود إليها على الأقل هذا الفضل، ويعوض الثمن المريع الذي دفعته وتدفعه. فلو تمت الضربة العسكرية الغربية غداً وبدا عقْمها، أو تمت الضربة العسكرية غداً وأدت تفاعلاتها إلى مزيد من الخراب، أو لم تتم أصلاً… فماذا عن بعد غد؟ لا حل من داخل المنطق القائم، والإقرار بذلك هو بداية طريق الخلاص.

السابق
اوباما: الضربة قد تكون غداً أو الأسبوع المقبل أو الشهر المقبل
التالي
تحليل أدلة استخدام الكيماوي تستغرق 3 أسابيع