رصاص في جنازة

مثل الالعاب النارية، التي تصدر ضجيجا عاليا وتطلق الاسهم في السماء، وتعبر عن مشاعر اكثر مما تعكس مواقف،ستكون الضربة العسكرية الاميركية الوشيكة لسوريا.. التي يدور حولها نقاش داخلي في واشنطن، يجعل منها واحدة من اغرب العمليات العسكرية واشدها تعقيدا.
لعلها ستكون المرة الاولى التي يجري فيها استخدام الطائرات والصواريخ لابلاغ الخصم، لا العدو طبعا، بالاستياء من سلوك محدد، اكثر فظاظة من المألوف والمقبول..على ان تعود الامور بعد الضربة الى سيرتها السابقة، وتتواصل عمليات الكر والفر بين النظام وبين المعارضة داخل سوريا، وتستأنف عمليات البحث عن حل سياسي مستحيل لأزمة مستعصية، اثبت العالم كله قدرة عجيبة على التعايش معها على الرغم من اكلافها الانسانية الباهظة.
قبل ان تنطلق الطائرات الاميركية والبريطانية والفرنسية والصواريخ البعيدة المدى، فقدت الضربة الاميركية مغزاها، وصار من الصعب ان تجد ان الاهداف السورية التي تقصدها ما زالت في مواقعها. وبات بامكان النظام السوري ان يعتبر ان الامر لا يعدو كونه اطلاق نار في جنازة، يموه عن حزن أهل الفقيد، لكنه لا يضيف الى المأتم اي قيمة او مهابة.. وفي هذه الحالة يصبح اعلان النصر من قبل ذلك النظام حتميا وربما ايضا مشروعا.
يريد الاميركيون عملية عسكرية تعبر عن غضبهم من استخدام الاسلحة الكيماوية في غوطة دمشق، من دون التسبب باغضاب النظام السوري، او استفزازه للاقدام على المزيد من مثل هذه الخطوات المشينة، او من دون تحديه للجوء الى توسيع الحرب خارج حدود سوريا.. والاهم من كل ذلك من دون التسبب بانهيار الجيش السوري على نحو ما جرى في العراق في عملية “الرعب والصدمة” في العام 2003، وبالتالي من دون الافساح في المجال للمعارضة السورية وتشكيلاتها الاسلامية لاقتحام دمشق او غيرها من المدن والمواقع الرئيسية الخاضعة لسيطرة النظام.
حتى الان، يعرف الاميركيون فقط ما يريدون تفاديه، وهو امر مستحيل فعلا، لان النظام غاضب حقا وهو لا يصدق ان اميركا يمكن ان تؤذيه، برغم العلاقات التاريخية التي صمدت على مدى اربعة عقود، وتقدم في الوقت نفسه خدمة لجبهة النصرة.. ولان الجيش الذي يفترض ان يكون البديل وان يظل عنوان الوحدة الوطنية السورية وربما ايضا حاميها الوحيد، خائف جدا من ان تكون الضربة عقابا اشد من المتداول حتى الان، وصفوفه تشهد هذه الايام تصدعا اضافيا.. ولان المعارضة تظن ان مهمة القوات الاميركية المقبلة هي ان تفتح لها الطريق الى دمشق وحلب وغيرها.
ما زالت اميركا والعالم كله حاسما بان اسقاط النظام لم ولن يكون هدفا، لان احدا لا يريد الفراغ والفوضى. لكن رأس النظام كان وسيبقى هدفا، حسب جميع الخطط الاميركية والروسية الضمنية، التي لم يكن من شأن الحملة الحالية عليه في اعقاب تجاوزه الخط الاحمر سوى التوكيد على انه لم يعد له مستقبل في سوريا. كانت الخطط كلها تنص على اخراجه من السلطة بطريقة تفاوضية تدريجية سلسة، وفي موعد محدد لا يتجاوز صيف العام 2014. يبدو الان انه جرى تعديل هذه الخطط، وتسريع آليات تنفيذها.
كل ما عدا ذلك تفاصيل، تكتسب اهميتها من الان فصاعدا على قاعدة ان العاصمة التي يمكنها ان توفر مخرجا لرأس النظام، تستطيع ان ترث سوريا.. التي لا يطمع الاميركيون بالهيمنة عليها، خصوصا وانها ليست باهمية العراق او ليبيا ولا تتمتع بثرواتهما، ولا يرغب الاوروبيون الغربيون في السيطرة عليها للاسباب نفسها، ولا يود الاسرائيليون رؤية تغيير جذري في سلوكها السياسي او العسكري.. الباقون هم المرشحون للوراثة، باستثناء ايران وحدها، التي تشارف نزعتها الامبراطورية على الانتهاء، بعدما دخلت في مرحلة من التواضع الداخلي المبني على وقائع لا تدحض.
لكن اميركا التي تقرع طبول الحرب، يمكن ان تخطىء، ويمكن ان ترتكب حماقة جديدة في سوريا. فهذا هو الدرس الاهم من التاريخ.

السابق
توافق إيطالي – فرنسي بشأن ضرورة الحل السياسي في سوريا
التالي
القضاء اللبناني ادّعى على المفجرين ومطلقي الصواريخ والمتهم «المخابرات السورية»