ضرب سوريا: إعلاميّ لواشنطن واستراتيجيّ لموسكو

ما زال باحثون إستراتيجيون متخصصون في الشؤون الأميركية يرجحون تجنب الإدارة الأميركية شنّ هجمات عسكرية ضدّ سوريا.
ويعتمد هؤلاء الباحثون في نظرتهم هذه على تقارير إستراتيجية تصدرها معاهد أميركية مشهود لها بالمهنية العالية كمركز “ستراتفورد”، وعلى مقالاتٍ لمحلّلين معروفين برصانتهم مثل بات بوكنان وغيره، وكلهم يظهرون محدوديّةَ هذه الهجمات العسكرية في تحقيق نتائج حاسمة، بل يعتقدون أنها ستُضعف من هيبة الإدارة الأميركية التي يبدو انّ “الدب الروسي” يريد لها الغرق في مستنقعات المنطقة لكي يتمكن من معادلتها إستراتيجياً وإقتصادياً.
ويشير هؤلاء المتخصصون الى انّ رسائل عدة قد صدرت خلال الساعات الاربع والعشرين الماضية تشير الى إمكانية حصول مراجعة أميركية لقرار الحرب، وأبرزها بلا شك الموقف الايطالي الذي طالب بقرار يتخذه مجلس الأمن الدولي قبل توجيه الضربة ضدّ سوريا، وهو يدرك صعوبة إتخاذ مثل هذا القرار. وأهمية الإستدراك الإيطالي هنا تتضح كمؤشر الى وجود انقسام داخل الرأي الأوروبي، وهو أيضاً ما انعكس في تردّد رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون عن الإندفاع في التشجيع على الحرب، خصوصاً مع بداية تظاهرات “أوقفوا الحرب” التي بدأت تتجمّع أمام مكتبه في “10 داونينغ ستريت” مساء أمس الاربعاء.
البعض يعتبر أيضاً انّ الموقف الإيطالي ليس بعيداً من توجّه الإدارة الأميركية التي تسعى الى مواجهة الضغوط الشديدة التي يتعرّض لها الرئيس باراك أوباما لشنّ مثل هذه الحرب، سواء من معارضيه الجمهوريين، او من بعض الليبراليين المتشددين في حزبه الديموقراطي. ويربط هؤلاء بين الموقف الإيطالي وبين موقف الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون الذي أكد انّ لا بدّ من قرار يتخذه مجلس الامن لإجازة ايّ تدخل عسكري ضدّ دولة مستقلة، ودعا الى انتظار نتائج مهمة لجنة التحقيق الدولية الموجودة في سوريا حول استخدام الأسلحة الكيماوية.
حتى الأخضر الإبراهيمي الصامت منذ اشهر، وهو المبعوث العربي ـ الدولي لحلّ الأزمة السورية، خرج عن صمته ليعلن انّ النظام السوري لم يطلق الصواريخ الكيماوية. كلّ هذه المواقف مؤشرات، ليس فقط الى تنامي الإعتراض على ضربة أميركية سريعة لسوريا، وإنما تعبيراً أيضاً عن وجود جهات في البيت الابيض، ليس اوباما بعيداً عنها، لا تريد للولايات المتحدة أن تتورط في مغامرة عسكرية غير معروفة النتائج. وما يزيد من ثقة هؤلاء في نظرتهم، انّ اوباما ليس مقتنعاً بجدوى هذه الحرب، ولا بكونها مفيدة لبلاده، ولكنه مضطر الى مجاراة المطالبين بها، لكي لا يخسر ما تبقى من صدقيته أمام الرأي العام الأميركي بعدما كان وعده بأنّ السلاح الكيماوي “خط احمر”، وبات أسير هذا الوعد بعدما نجحت أجهزة الإعلام الإسرائيلية في إشاعة انطباع بأنّ هذا السلاح قد استُخدم فعلاً، و”أّنّ النظام السوري هو الذي استخدمه”، محاولاً استباق نتائج مهمة لجنة التحقيق الدولية نفسها. ويقول المتخصصون أنفسهم انّ استعجال الراغبين في الحرب قد كشف حركتهم فلم يسعوا حتى الى فبركة أدلّة تدعم وجهة نظرهم كما كان الامر مع وزير الخارجية الأسبق كولن باول، ولم يسعوا حتى الى انتظار نتائج عمل لجنة التحقيق الاممية، فبالنسبة اليهم “انّ القرار بالحرب يجب أن يُتخذ وبعد ذلك نوجد الذرائع والمبررات”، وهو تصرّف يذكر بنكتة عراقية شهيرة في زمن الديكتاتوريات الدامية تقول: “اليوم نَعدمه وباكر محاكمته”. فالقرار يصدر قبل المحاكمة.
لكنّ متخصصين آخرين في الشأن الأميركي يقفون على الجانب الآخر، يؤكدون انّ الضربة العسكرية واقعة لا محال، وانّ اوباما غير قادر على التراجع عنها، وأنه سيسعى الى أن تكون “ضربة جراحية محدودة” يمكن أن تستوعبها سوريا إعلامياً على طريقة “نحن نحدّد الرد المناسب بالشكل المناسب وفي الوقت المناسب”. ويعتقد هؤلاء انّ محدودية هذه الضربة التي لا تُسمِن ولا تُغني من جوع ستحول دون تداعيات كبرى لحرب شاملة او ما شابه. كذلك يعتقد هؤلاء انّ موسكو تسعى الى تنظيم حدود هذه الضربة، وكذلك الى ضبط الرد السوري عليها، فتحقق الضربة عندئذ مكسباً اعلامياً تستعيد فيه واشنطن هيبتها، ومكسباً استراتيجياً تحقق فيه موسكو خطتها في مؤتمر “جنيف – 2” او ما شابه.
ولكن في كل الحالات فإن للميدان ديناميته، ولكنّ الدروس علّمت الجميع “انك قد تتحكّم ببداية الحرب، ولكن لا تستطيع التحكّم بمسارها او بنهايتها”.

السابق
أين حزب الله من العدوان؟
التالي
تأديب الأسد قد يقضي عليه