الوحش الذي استيقظ فينا

احذر من الوحش الذي استيقظ فينا، لاننا إذا لم نسارع إلى كبح جماحه فلن يسلم أحد من شروره، وستصبح مصر كلها ضحية له.

أتحدث عن خطاب الكراهية ودعوات الانتقام التي تستهدف ترويع الآخرين وتصفيتهم، ليس لإقصائهم فحسب، ولكن أيضا لاقتلاعهم وحرمانهم من حقهم في الكرامة فضلا عن الحياة والوجود. إلى غير ذلك من عناوين ومفردات حملة الجنون التي باتت تملأ الفضاء المصري، وصارت تستخلص من الناس أسوأ وأتعس ما فيهم.
أتحدث عن التهليل لاستخدام القوة وعدم الاكتراث بالمجازر التي وقعت والاستخفاف بأرواح ودماء القتلى والشماتة في الضحايا، واستسهال التخوين والتوزيع المجاني لتهم الإرهاب والتحريض على القتل وقلب نظام الحكم والتخابر مع الأعداء. وأستغرب ان يتم ذلك كله من خلال منابر عامة، سواء كانت صحفاً أو قنوات وبرامج تلفزيونية، كما يمارس من خلال سيل من البلاغات المقدمة إلى النيابة، من جانب الميليشيات الجديدة التي خرجت من المخابئ والجحور وصارت تستهدف كل ما هو سوي ومحترم في بر مصر، ولا تسأل عما هو نبيل وشريف.
في ظل هذه الأجواء المسمومة تحولت دعوات الوفاق الوطني والمصالحة والسلام الأهلي والالتزام بالتعددية واحترام الرأي الآخر والحل السلمي للخلافات السياسية، هذه كلها تحولت إلى مثالب يرمى بها من تجرأ وتطرق إليها، وأصبحت مبررات لشن حملات التجريح والتشويه. بل إن الدعوة إلى المصالحة الوطنية، التي هي من أنبل وأنجح أساليب العمل السياسي، صارت تحظى بدرجة عالية من المقاومة والاستنكار.

نقلت جريدة «الأهرام» يوم الأحد الماضي عن المستشار الإعلامي لرئيس الجمهورية أحمد المسلماني قوله إن الكراهية في مجتمعنا خطر على الأمن القومي. وهو تعبير دقيق ومهم برغم ان الجريدة لم تشر إلى السياق الذي وردت فيه، إلا أن صاحبنا لم يبين لنا لماذا اطلقت حملة الكراهية في الوقت الراهن؟ ومن يقف وراءها؟ ومن يتولى بثها والترويج لها؟ إن الوحش في هذه الحالة لا يصيب الآخر فقط، ولكنه يسمم الأجواء ويلوث الإدراك العام، بحيث يحول المواطنين العاديين إلى وحوش صغار وقنابل موقوتة، مشحونة بالكراهية، الأمر الذي يقسم المجتمع إلى ميليشيات متخاصمة ومستنفرة ويحول الوطن الواحد إلى معسكرات متحاربة يتأهب كل منها للانقضاض على الاخر وإفنائه. وما لا يقل خطورة عن ذلك ان استمرار ذلك الوضع يعد إعلاناً عن فشل السلطة القائمة في الحفاظ على وحدة الجماعة الوطنية وعجزها عن حماية التنوع والتعدد فيها.
ثمة حلقة غامضة في خلفية إطلاق الوحش. ذلك اننا إذا فهمنا دور المنابر المستخدمة وعرفنا شيئاً عن المصالح المستهدفة وأدركنا حقيقة العناصر التي تغذي السموم وتروج للحقد والكراهية، فإن علاقة هؤلاء بالأجهزة الأمنية التي عادت إلى انتعاشها مؤخراً تظل محل تساؤل تردد كثيراً على شبكات التواصل الاجتماعي، وقد أثار تلك الشكوك وقوّاها ان العناصر التي ترعى الوحش وتغذيه لها صلاتها التاريخية الثابتة بتلك الأجهزة. وأهمية استجلاء هذه النقطة انها تبين لنا ما إذا كانت عملية إطلاق الوحش جزءا من سياسة الدولة أم انها تتم لحساب جهات لها مصالحها الخاصة، أم أنها نقطة التقت عندها مصالح الطرفين.

ليس سراً أن الهدف النهائي لهذه الحملة هو القضاء على «الإخوان» والخلاص منهم بصورة نهائية عند الحد الأدنى والخلاص من التيار الإسلامي في مجمله عند الحد الأقصى. وهذا الهدف الكامن أعلنت عنه أصوات بلا حصر خلال الأسابيع الأخيرة، بعضها تسرع وذكر ان «الجماعة» انتهت بالفعل، وبعضها أكد انها تلقت ضربة قاضية أخرجتها من التاريخ بغير رجعة. وبعضها ذهب إلى أن المجتمع لفظها إلى الأبد. إلى غير ذلك من التعبيرات التي تحدث بها البعض عما يتمنونه وليس عما هو حاصل بالفعل. صحيح ان «الإخوان» وقعوا في أخطاء عدة، وأن شعبية الحركة تراجعت إلى حد كبير في مصر، وصحيح أيضاً أن أداء بعض الحركات الإسلامية في الفترة الماضية كان منفراً وليس جاذباً، لكن من الصحيح أيضاً انه على مدار التاريخ لم يحدث ان حركة عقائدية لها شعبية إسلامية أو غير إسلامية انتهت بقرار أو بإجراءات إدارية أو حملات أمنية من أي نوع. وحين تكون الحركة إسلامية في بلد متدين بطبيعته مثل مصر فإن القضاء عليها واقتلاعها بالكامل يُعدّ من رابع المستحيلات. وهذا ليس رأياً خاصاً ولكنه رأي أي باحث منصف، له علم بالسياسة أو بالاجتماع أو بالتاريخ. وهو معنى عبرت عنه كتابات عدة في العديد من الصحف الغربية وفي بعض الصحف العربية والمصرية، نعم قد تضعف الحركة وتندثر ومن ثم تختفي من الوجود، وهو ما يؤكده تاريخ الفرق عند المسلمين. ولكن ذلك يتم من خلال تآكل الأفكار التدريجي أو تعارضها مع ثوابت الشرع أو فطرة الناس، ولم يحدث مرة واحدة ان تم ذلك بقرار سلطاني أو بحملات قمعية وأمنية.
ان الجهد الهائل الذي نشهده هذه الأيام لشيطنة «الإخوان» لتبرير القضاء عليهم، بما في ذلك الادّعاء بأن الاشتباك معهم بمثابة حرب جديدة على الإرهاب، لو بذل عُشره لاحتوائهم وتشجيعهم على مراجعة أخطائهم وتصحيح علاقتهم مع المجتمع بمؤسساته المختلفة، لكان ذلك أجدى وأنجح وأقرب إلى تحقيق المصلحة العليا للبلد. ناهيك عن سوء التقدير والتعبير في استخدام مصطلح الحرب على الإرهاب الذي أريد به دغدغة مشاعر الغربيين. ذلك ان الحرب الوهمية التي استخدمت نفس المصطلح في التجربة الأميركية، كانت ولا تزال أفشل حروبها، ولم تحقق الهدف منها برغم مضي نحو عشر سنوات على انطلاقها. فضلا عن أن كثيرين يعتبرون انها عممت الإرهاب في العالم ولم تقض عليه.

السابق
ماذا بعد مؤتمر المعلم؟
التالي
أردوغان والتطاول على شيخ الأزهر