لبنان ليس أمام 7 أيار محلّية

يخطئ من يعتقد أنّ تأليف حكومة جامعة والذهاب إلى الحوار بلا شروط يؤدي إلى وقف مسلسل التفجير الإرهابي، لأنّ لبنان ليس أمام اشتباك داخليّ على غرار 7 أيار الذي استخدم فيه «حزب الله» سلاحه لتعديل ميزان القوى الداخلي.
الدعوة إلى حكومة جامعة اليوم لا تنطوي على اتّهام ضمنيّ لـ”حزب الله” بأنه وراء التفجير، وأنّ الفريق الآخر على استعداد لمقايضته عبر الانصياع لإرادته بتأليف حكومة بشروطه مقابل وقف هذا التفجير، بقدر ما تنطوي على تسليم البلد للحزب سياسياً وأمنياً لتمكينه من تحسين متطلّبات معركته مع “الفريق الإقليمي” الذي استهدفه ويستهدفه نتيجة انخراطه في القتال السوري.

فلو كان “حزب الله” وراء هذه التفجيرات بهدف جرّ الفريق الآخر إلى التنازل سياسياً لكان ربما صحّ الحديث عن حكومة جامعة، ولكن “حزب الله” لم يفجّر نفسه في الضاحية، بل تعرّض لهجوم فعليّ، وهذا الهجوم مرشّح منطقياً للاستمرار بحكومة جامعة أو من دونها، وبالتالي التنازل سياسياً في هذه الحال مضرّ، حتى لو كان ينطوي على رسالة مفادها أن مقابل هذا التنازل يتعهّد المحور الذي ينتمي إليه الحزب بعدم الرّد على التفجير بالتفجير، أي أنّ هذا المحور يتعهّد بعدم الرّد على الرسائل الأمنية بمثلها شرط تسليمه مفاتيح البلاد.

فالتفجيرات التي حصلت لا يمكن إدراجها إلّا تحت احتمال أوحد: الرّد على التفجير بالتفجير بغية إقامة نوع من توازن الرعب على الساحة اللبنانية، وأمّا توسيع رقعة التفجير، إذا حصل على غرار صواريخ صور، فيكون الهدف من ورائه ابتزاز الولايات المتحدة لمقايضتها بين تفجير لبنان والمنطقة في حال استمرّت التفجيرات على بيئة “حزب الله”، وبين أن تضغط واشنطن على الطرف الآخر لوقف تفجيراته من أجل العودة إلى قواعد اللعبة السابقة: “نتقاتل في سوريا ونحيّد لبنان”.

وأمّا اتهام النظام السوري بأنه وراء تفجيري الضاحية وطرابلس لإشعال فتنة سنّية-شيعية، فلا يعدو كونه كلاماً طوباوياً وهروباً إلى الأمام، ورفضاً لقول الحقيقة. فالنظام السوري لا يستهدف “حزب الله” في الوقت الذي يقاتل فيه الحزب في سوريا دفاعاً عنه. والنظام لا يريد إلهاء الحزب في لبنان، فيما هو بأمس الحاجة إليه في سوريا. والنظام ليس في مرحلة يستطيع فيها التمايز عن إيران، إنما في مرحلة تدير فيها طهران سياسته ومعركته في دمشق.

وإذا كان من الخطأ التمييز أو الرهان على تمييز بين مكوّنات محور الممانعة في الظروف العادية، فهل يصحّ الكلام عن تمايز في الظروف الاستثنائية؟ ولذلك أي خطوة سياسية أو إجراء عسكري وأمني يكون منسّقاً ومبرمجاً بين مكوّنات هذا المحور، والتمييز بين مكوّن وآخر هو خطأ بحد ذاته. وهذا المحور مجتمعاً لن يفجّر لبنان لاستدراج المجتمع الدولي إلى محاورته إلّا بعد أن يتأكد من أنّ خسارته الميدانية باتت محققة، هذه الهزيمة التي لا يبدو أنها قريبة، على رغم التقارير التي ربطت استخدامه الكيماوي بوقف تقدّم المعارضة في دمشق.

فمحور الممانعة ما زال حتى اللحظة في حاجة للبنان كرئة ومتنفّس وجسر عبور للسلاح والمسلّحين، وبالتالي تهديد هذا المحور بتفجير لبنان يتصل حصراً اليوم بالضغط على واشنطن للضغط بدورها على المحور الآخر لحصر المواجهة في سوريا، إذ إنّ فتح الجبهة اللبنانية يربك محور الممانعة لجهة أنه يشتّت قواه ويُضعف تركيزه، فيما هو بحاجة لوضع كل ثقله في المعركة السورية التي تحدّد مصيره.

وما يرجّح استمرار معركة توازن الرعب أنّ واشنطن لا تأخذ التهديدات بتفجير حرب إقليمية على محمل الجد لإدراكها أنّ انغماس محور الممانعة في الحرب السورية يجعله أعجز عن فتح حرب مع إسرائيل تسرّع في سقوط النظام وتنهك الحزب، فضلاً عن أنّ الفريق الذي استهدف الحزب في عقر داره ليس في وارد التنازل عن ورقة أثبتت نجاحها بدليل الاستنفار الذي لم يسبق له مثيل للحزب والذي سيؤدي عاجلاً أم آجلاً إلى تعطيل دوره السوري.

ومن هنا كلّ المؤشرات تفيد أنّ لبنان دخل في عين العاصفة، وخروجه منها لا يكون بخطوات شكلية من قبيل حكومة وحوار، لأنّ الخلاف ليس بين “الجميزة” و”البسطة”، أو “الضاحية” و”طرابلس”، إنما بين طهران والرياض ويتمظهر في القاهرة وبغداد ودمشق وبيروت، ولتحييد لبنان يقتضي الوصول إلى تفاهم بين إيران والسعودية، الأمر الذي لا يبدو متاحاً في الفترة المنظورة، فضلاً عن أنّ تأدية الرياض دور “أمّ الصبي” باستمرار أدى إلى إضعاف دورها وتهميشها سيّما في لبنان من اغتيال الشهيد رفيق الحريري مروراً بأحداث 7 أيار وصولاً إلى إسقاط الـ”سين-سين” واتفاق الدوحة واغتيال الشهيد وسام الحسن.

وقد أدى دخول “حزب الله” إلى سوريا إلى كسر كل الخطوط الحمراء بالنسبة إلى المملكة التي تخلّت للمرة الأولى عن ديبلوماسيتها حياله، ولا يبدو أنها في وارد التساهل مع مواصلة قتاله في سوريا، وبالتالي يبدو أنها غضّت النظر عن المواجهة المفتوحة بينه وبين المعارضة السورية على اختلافها.

وفي هذا الوضع المعقّد يبقى السؤال عن مصلحة لبنان في التمحور مع طرف ضد طرف آخر، أو مصلحته في قيام حكومة لا تأخذ في الاعتبار مطالب معظم اللبنانيين في الحياد عن الأزمة السورية، أو مصلحته في تظليل مواجهة في سوريا تنعكس سلباً على لبنان وعلاقاته الخارجية؟ وعلى الخط الآخر هل 14 آذار في وارد المشاركة في حكومة مع “حزب الله” على رغم مواصلته القتال في سوريا؟

وهل باستطاعتها تبرير خطوة من هذا النوع أمام جمهورها بعد تعهّدها برفض المساكنة مع الحزب قبل خروجه من سوريا؟ وألا تعتبر مشاركتها خضوعاً للأمر الواقع؟ وهل الموقف السعودي مع مشاركة من هذا النوع، فيما كلّ المؤشرات تدلّ على خلاف ذلك، خصوصاً أنّ طهران أسقطت بنفسها السياسة التي كانت اعتمدتها المملكة والمجتمع الدولي منذ اندلاع الثورة السورية والقاضية بالتبريد في لبنان مقابل التسخين في سوريا؟

فالرّد على التفجير لا يكون بالذهاب نحو حكومة جامعة تضع لبنان الرسمي في خانة محور الممانعة، إنما يكون بالذهاب نحو حكومة حيادية تؤكد حياد لبنان ورفض تغطية الأسباب الكامنة وراء التفجير والمتمثلة بقتال الحزب في سوريا، خصوصاً أنه بعد تفجيري الضاحية وطرابلس سقطت كل نظرية التكفيريين التي أعلن السيّد حسن نصرالله المواجهة ضدّهم، حيث تبيّن بالملموس أنّ الجهات المنفّذة أبعد من مجرّد جماعات هاوية ومبتدئة وانتحارية، والدليل عدم القدرة على تقفّي أثرها، والكلام عن اكتشافات ومعلومات هو كلام إعلامي بهدف تطميني، وليس أبعد من ذلك حتى الآن، ما يعني أنّ هذه التفجيرات لا تحمل توقيع تكفيريّ، لأنّ التكفيريين إن وجدوا غير منظّمين وعملياتهم ضرب عشواء وانتحارية والتحقيقات أثبتت عدم وجود أي انتحاري، ما يؤشّر إلى جهات منظّمة ومحترفة تعلم جيداً أهدافها المتصلة في الضاحية حصراً بـ”حزب الله” في رسالة ممهورة بعنوان واضح “قتالك في سوريا يقابله نقل المعركة إلى داخل بيئتك”، وفي تفجير طرابلس الرسالة مزدوجة: إلى السعودية وفحواها “ضربة مقابل ضربة”، وإلى المجتمع الدولي عنوانها “استهداف “حزب الله” سيقابله إشعال لبنان”.

وعلى رغم مصيرية المعركة السورية بالنسبة إلى إيران، إلّا أنّ ذهابها حتى النهاية في لبنان سيفقدها الورقة اللبنانية، إذ إنّ انفجار الأوضاع فيه سيؤدي إلى فرطعته بالعودة إلى ترسيمات الحرب الأهلية التي سيكون “حزب الله” أكثر المتضرّرين منها لجهة انكفائه إلى داخل بيئته بدلاً من تمدّده على كامل الجغرافيا اللبنانية، وتعطُّل كلّ المؤسسات في الدولة التي يستخدمها بشكل أو بآخر، وبالتالي الخيارات محدودة وسياسة “عضّ الأصابع” لن تفلح، ومحاولات الترقيع لن تنجح، وعمليات الابتزاز تحوّلت مع حماوة المواجهة إلى ورقة ساقطة، ولذلك الحلّ الوحيد لمنع انزلاق لبنان إلى الحرب التي لا مصلحة لأحد فيها يكمن بانسحاب “حزب الله” من سوريا، وأي تساهل في هذه المسألة يكون أصحابها من حيث لا يدرون يشجّعون على مزيد من انزلاق لبنان نحو الفوضى، لأنّ هذه الحرب هي حرب إقليمية بامتياز، وما انتقالها إلى الساحة اللبنانية إلّا بفعل انتقال الحزب إلى سوريا.

السابق
إجراءات أمنية مشددة في سوق النبطية
التالي
قباني: المسؤول عن التفجيرات واحد وعلى سلام الاسراع في تأليف الحكومة