حيث الفوقيّة.. لا توافق

تحاول شخصيات مسيحيّة ميثاقيّة تأدية الدور التقليدي الجامع الموحد، الهادف الى تدوير الزوايا الحادة بين القيادات المتباعدة، بعيداً من الإثارة الإعلاميّة، إلاّ أنّ النتائج اقتصرت على: “إسمع تفرح، جرّب تحزن”، لأنّ “الغالبيّة – على حدّ إعتقادها – ملتزمة تنفيذ أجندات خارجيّة، وقد بلغَ بها المطاف مكاناً لا يُمكنها العودة منه سالمة؟!”.

التورّط في الداخل السوري، سواء “بتقديم الشاش والدواء الأحمر” إلى المعارضة، أو “بالقتال الى جانب النظام”، هو بند “فاقع” من بنود هذه الأجندات، يضاهيه من حيث الخطورة “الإستلشاق” المتمادي بميثاقية البلد، وتركيبته الإجتماعيّة الحساسة، إذ إنّ البعض يتصرّف مع “اتّفاق الطائف” كملكيّة خاصة وجدَ فيها ضالّته من المكاسب، والصلاحيّات الواسعة، والنفوذ المتحكّم بمفاصل الدولة وإداراتها، فيما ينطلق البعض الآخر من “فائض القوة”، مُتجاوزاً الدولة بمُؤسّساتها وإلتزاماتها، يُجاهر بخياراته غير مبال بردود الفعل المحلّية، والمُضاعفات المُترتّبة، أو تلك التي ستترتّب نتيجة هذه السياسة الفوقيّة “المُتفرِّدة”.

ويسود إقتناع مفاده أنّ المسار الأقوى عند الطائفة الشيعيّة لا يريد هذه الدولة، وهذا النظام، وهذا “الطائف”، فيما السُنّة لم يعرفوا أن يبنوا الدولة، ويحسنوا إدارتها، على رغم “الطائف”، ودستوره، والصلاحيّات الواسعة التي منحها لرئاسة مجلس الوزراء.

أمّا لدى المسيحيين، وتحديداً الموارنة “فلم تعُد هذه الدولة تُغريهم” نظراً إلى سياسة “التناهش والتناتش” السائدة، فضلاً عن أنّ “الطائف” قد زادَ من إحباطهم، خصوصاً بعدما فقدت رئاسة الجمهوريّة دور الحكم النزيه القادر على إدارة “اللعبة السياسيّة” من موقع المُقتدر المُحصَّن بأحكام الدستور؟!.

وعطّل هذا “الإنفلاش غير المُنضبط” كلّ المساعي الحميدة الهادفة الى تحصين العيش الواحد، والحرص على وشائج “الخبز والملح” ما بين الفاعليّات. والمُشكلة هي أنّ البعض في كُلّ طرف يشعر بأنّه أكبر من البلد، ويتصرّف على هذا الأساس مُتجاوزاً خصوصيّات البلد، ومصالحه، وبتعبير آخر إنّها “فوعة الفوقيّة” التي تتحكّم بالرؤوس والنفوس، وعندما يتسلّح البعض بها، ويتّخذها أسلوباً في التعاطي، عندها يستوطن القلق المشاعر والضمائر، والخوف من بؤس المصير؟!.

إن ربط النزاع بالبُعد السوري، مجرّد توصيف تخفيفي، لأنّ الطرفين قد توغلا بعيداً، هذا مع المشروع الإيراني، وذاك مع المشروع السعودي، وكان طبيعيّاً أن يستدرجا المأزق الى الداخل اللبناني لأنّ حضورهما على الساحة السورية مهما علا شأنه يظلّ مجرد رقم، او ملحقاً، او عنواناً فرعياً هامشياً في ظلّ الإنغماس الإقليمي – الدولي الكبير في النزاع، وإصطفافات النفوذ والمصالح التي تتحكم بالأدوار والسياسات المتبّعة.

كان الإعتقاد السائد عند كثير من الدول الصديقة، أنّ في لبنان تاريخاً وتراثاً من التفاعل بين مجموعات من الطوائف والمذاهب تتعايش ما بينها وفق ديموقراطيّة توافقيّة، لذلك ترى انّ الحلّ يبدأ من الداخل أولاً عن طريق إعادة “تعويم” هذا التوافق و”تنظيفه” وتنزيهه من “الفوقيّة” لأنها لا تصح في مجتمع متعدد متنوع، ولا تتأقلم، إذ إنه يتعذر الوصول الى تفاهم مع الشركاء في الوطن بممارسة فوقيّة فئوية متسلطة في إتخاذ القرارات، او فرض الخيارات؟.

وتبدأ عملية “التنظيف” ـ وفق إعتقادهم – عندما يقتنع كل طرف بالعودة الى الداخل اللبناني، ضمن حدود الوطن، وتحت سقف الدولة، ويقبل بالحوار، وبتقديم التنازلات لإعلاء شأن المؤسسات الرسميّة الضامنة، وبمشاركة الجميع.

قد يبدو هذا الكلام شاعريّاً في ظلّ سياسة الفراغ والتمديد وتعطيل المؤسسات، او قد يبدو خارج المنطق في ظلّ وجود المنطق الآخر القائم على السيارات المفخخة، والعبوات الناسفة، والصواريخ الجوّالة، وإرتفاع منسوب التحدي بين من يدعم النظام في سوريا ومن يدعم المعارضة، وسط إنسداد في الأفق، وغياب الحلول الممكنة للوضع السوري المعقّد.

والحقيقة الثابتة حاليّاً، هي أن لبنان والدولة والمؤسسات، بات رهينة محاصرة بين محورَين سنّي وشيعي، إيراني وسعودي، روسي وأميركي، وإن حقل الإختبار لم يعد مقتصراً على الداخل السوري، وخط التماس المشتعل ما بين النظام والمعارضة، بل إنتقل الى الداخل اللبناني ما بين “الشيعيّة” المتمسكة بحزب الله “كفائض قوة”، وبين “السنّية” المتدثرة بجلباب الأصوليّة المتطرفة، وذلك رغماً عن إرادة الدولة، والحكومة، وغالبية الشعب اللبناني بطوائفه ومذاهبه وأحزابه.

والنتيجة البائسة هي انّ المبادرات المحليّة قد تعطلت، سواء أكانت فرديّة او جماعيّة، كذلك تعطلت طاولة الحوار، وكثير من المحاولات الرامية الى تأليف حكومة لإدارة الأزمة، والرجاء الوحيد المتبقي هو أن يحصل توافق خارجيّ ما لإعادة ترتيب أوضاع لبنان، لا تبدو معالمه واضحة في الأفق المحلّي – الإقليمي؟!

السابق
تكثيف الإجراءات الامنية في النبطية
التالي
حزب الله من باخرة السلاح الى خلية سامي شهاب