أمن المجتمع الشيعي فوق كل إعتبار

منذ إنتهاء الحرب الأهلية في 13 تشرين الأول 1990، لم يُقِم أيّ فريق لبناني حواجز على أسوار مناطقه وفي داخلها، ولم يعمد أحد إلى تفتيش السيارات والتدقيق في الهويات، كما فعل “حزب الله” في الأيام الأخيرة.

من الضاحية إلى الجنوب فالبقاع الشمالي، لا صوت يعلو على صوت المعركة. وتبيَّن أنّ الثلاثية الشهيرة: “جيش وشعب ومقاومة” تصلح للإستعمال السياسي في الأيام العادية. ولكن، عند الدخول في الأمور الجدّية، الثلاثيةُ تتحوّل أحادية: فقط مقاومة!

يقول “حزب الله” إنه لن يسلّم سلاح المقاومة للجيش، ما دام “لا يطمئنّ” إلى قدرته على مواجهة إسرائيل. ولذلك يصبح طبيعياً أن يقول إنه “لا يطمئنّ” أيضاً إلى قدرة هذا الجيش على توفير الحماية الكافية له، إذا تعرّض لـ”هجمات التكفيريين” في قلب مناطقه. فـ”حزب الله” “يحبُّ” أن يثق في الجيش ولكن… ليس إلى هذا الحدّ.

ويمكن لـ”الحزب” أن يستفيد من إنجازات الجيش، كما في عرسال وعبرا وسواهما، لكنه لا يستطيع أن يسلِّمه أمنه. هذا شيء، وذلك شيء آخر.
“الحزب” يقبل بتسليم الجيش سلاحه وأمنه والضاحية والجنوب والبقاع وسائر المناطق، إذا أصبح هذا الجيش خاضعاً لقرار سلطةٍ سياسيةٍ… خاضعةٍ لسلطته.

وقد يقبل إذا تمّ تشريع المقاومة داخل الجيش، بحيث تتولّى أمن مناطقها شرعياً… وفق إستراتيجية دفاعية يقرّها الحوار المنشود.وفي الإنتظار، يجرؤ “الحزب” على التخلّي عن تحفظاته، ويقولها صراحةً: لن أترك مناطقي في يدِ أحد، أياً كان، لأنّ الوقت ليس للمغامرات. و”أمن المجتمع الشيعي فوق كلّ إعتبار”.

ذات يوم، وحين رفع الدكتور سمير جعجع هذا الشعار، وهو في غمرة الحرب الأهلية، إنطلق “وكر الدبابير” في إتجاهه. أولاً لأنه تحدَّث عن “مجتمع مسيحي”، وثانياً لأنه تحدّث عن أولوية الأمن في “المناطق المسيحية”. و”حزب الله” كان في طليعة المهاجمين.

اليوم، تنقلب المعادلات: “لا إعتبار لأمن المجتمع المسيحي”. ووحده أمن “حزب الله” له الإعتبار، ولمناطقه. وأما الآخرون فينادون، منذ 2005، بمثالية ساذجة ربما، بأنّ الأمن هو للدولة اللبنانية وحدها.

وللإنصاف: يحقُّ لـ”حزب الله” ومناطقه أن تحظى بالأمن، ولو كان هو نفسه الذي يستورد إليها الحروب من سوريا. ومن حقِّ “الحزب” أن يمنع المجرمين من الإعتداء على أهالي الضاحية. ولكن، لماذا لم يُقِم المسيحيون أو السنّة أو الدروز أمنهم الذاتي في الأعوام 2005 وما تلاها، فيما كان يتساقط رجالات 14 آذار كالعصافير، وتُستهدف الأحياء بالعبوات الناسفة؟

يحقُّ لـ”حزب الله” أن يدافع عن مناطقه. ولكن، هل يحقُّ له ما لا يحقُّ لغيره؟ وهذا السؤال سيتفاعل في أوساط كثيرة في المرحلة اللاحقة، أي عندما يشتدّ الضغط الأمني على “حزب الله” فيضطر إلى تشديد ضغوطه الأمنية أيضاً.

وعندئذٍ، سيُطرح سؤال آخر: هل إقفال الشوارع والأحياء بالحواجز والتدقيق في الهويات باتا أمراً مباحاً للمجموعات المذهبية أو الطائفية، إذا توافرت لها مبررات الحماية الذاتية؟ أي هل الضرورات تبيح المحظورات؟

سيمرّ بعض المواطنين غير الشيعة، أو حتى الشيعة، على حواجز “الحزب”، وسيفضّل البعض الآخر “تغيير الطريق”، أو العدول عن محاولة الحصول على تأشيرة للدخول إلى مناطق “الحزب”.

والتدقيق في الهويات قد يستثير كثيرين مذهبياً أو طائفياً، وستعود إلى مخيلتهم صورة الحواجز الثابتة والطيارة ايام الحرب، بكامل مسلتزماتها وأعبائها؟ ومِن باب الخوف أو الحيطة أو تسجيل الموقف، قد يفضل كثيرون تجنُّب الضاحية وحواجزها وشوارعها وأحيائها، و”بلا وجع رأس”. وهكذا يتكرَّس الفرز تدريجاً.

في الرواية التالية، مناطق أو أحياء للسنّة قد “تغار” من الضاحية، أو مناطق درزية أو مسيحية. وعلى صعوبة الأمر في الوقت الحاضر، بالنسبة إلى الدروز والمسيحيين، فلا شيء يُستبعد عندما يتذكّر الجميع بأنّ حرب 1975 بدأت بين مخيمات مدججة بالسلاح الثقيل وشبان لا خبرة لهم سوى بسلاح الصيد.

الأمن الذاتي مرضٌ مُعْدٍ. و”حزب الله” يحمل الفيروس، وهو الذي وفّر الحماية له كي ينمو في المخيمات وخارجها، قبل أن يندم. وهو يوفّر له اليوم أن ينمو في بيئات التكفير والهجرة، على حساب الإعتدال.

وإذا نشأت مناطق الأمن الذاتي، كما هو محتمل، فسيكون لبنان قد إقترب من النماذج الإقليمية الناشئة، بدءاً بالعراق وسوريا. فهل هذا ما يُراد للبنان؟

السابق
تجربة الإخوان نحكم مصر أو
التالي
لماذا الاعتدال عدو حزب الله؟