العنف يغلب السياسة

مع اندلاع ثورات «الربيع العربيّ»، كان المؤمّل أن تغدو السياسة الثمرة الأكبر التي تنتجها الحرّيّة. لكنّ نظرة سريعة إلى مصر وسوريّة، وإلى العراق الذي عرف «ربيعه» في 2003، وجزئيّاً لبنان الذي يعيش تداعيات «الربيع» السوريّ، تقودنا إلى فرضيّة أخرى. ذاك أنّ العنف والكراهية اللذين ربّتهما العقود الفائتة نالا نصيباً من الحرّيّة يفوق ما نالته السياسة. لقد تحرّر أيضاً العنف والكراهية، ولدينا منهما الكثير المكبوت، بحيث ابتلعا كلّ سياسة.

ففي مصر بدا مفاجئاً مدى إصرار «الإخوان المسلمين» على معاقبة الشعب بالأسلمة، ثمّ بدا مفاجئاً أكثر مدى الكره المكنون والمؤصّل حيال جماعة «الإخوان»، لا عند العسكر فحسب، بل أيضاً عند قطاعات عريضة من المدنيّين، العلمانيّين وأنصاف العلمانيّين. ووسط مذبحة قد تتلوها مذابح، اتّجه «الإخوان» أنفسهم، وقد باتوا الضحايا، إلى الثأر من مكروهيهم الأقباط بالاعتداء عليهم وإحراق كنائسهم!

وفي سوريّة لم تعد جماعات «القاعدة» و «النصرة» تفصيلاً تستطيع الثورة أن تتجاوزه وتطوي صفحته. فهذه التنظيمات القاتلة ابتلعت جزءاً كبيراً من الثورة، وتهدّد راهناً بابتلاع الباقي. وحينما يُختطَف رجل كالأب باولو، يصير جائزاً القول إنّ المشاعر المناهضة للمسيحيّين، وللشيعة والعلويّين، بدأت تغلب كلّ المشاعر الأخرى الدائرة في فلك الثورة، بما فيها بناء سوريّة جديدة لجميع أبنائها.

والحال، وكما يتبدّى في أعمال القتل المتمادي والعديم الرحمة في العراق، وفي جريمة التفجير الأخير في الضاحية الجنوبيّة من بيروت، أن تصدّر النزاع السنّيّ – الشيعيّ في عموم المشرق، وفي بعض الخليج، هو بذاته تعبير عن صعود نوازع القسمة على نازع الوحدة، وعن حلول العنف والكراهية حيث افتُرض حلول السياسة.

إنّ مقتل الثورات يلوح في الأفق العربيّ، تماماً كما تلحّ علينا ضرورة النبش العميق بحثاً عن الوحش الذي يقيم فينا ويمنعنا من أن نكرّر ما شهدته أوروبا الجنوبيّة أواسط السبعينات وأوروبا الوسطى والشرقيّة أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات. وهذا ما لم يعد يفيده حصر النقاش في السياسات الضيّقة وفي مسؤوليّة الأنظمة، وهي قائمة طبعاً، ولا المبالغة في تحميل الغرب المسؤوليّة، وهو مسؤول جزئيّاً، ولا التعفّف عن مواجهة أوضاعنا بنقديّة يمجّها «الصواب السياسيّ» وينسب إليها، بكثير من الاستسهال والتبسيط، عنصريّةً مقيتة، ولا هجاء الاستشراق والمستشرقين الذين سبق أن نبّهوا إلى مصادر العنف في حياتنا.

أمّا الذين أيّدوا الأنظمة وعادوا الثورات منذ بداياتها، فلسبب بسيط لا يستطيعون أن يقولوا لنا اليوم: «ألم نقل لكم». ذاك أنّ تلك الأوضاع القائمة كان لا بدّ أن تسقط من غير أن تنفع العظات الأخلاقيّة في تخليدها ضدّاً على الطبيعة. لكنْ كيف نُسقط الأنظمة في هذا الجزء من العالم، فهذه «أصالتنا» التي تشاركنا إيّاها أنظمتنا المتساقطة.

إنّ الحرب السنّيّة – الشيعيّة، والكراهية المسلمة للمسيحيّين، وعداء «الإخوان» لسواهم وعداء هذا السوى لهم…، عناوين تقول إنّ السياسة مؤجّلة في ربوعنا حتّى إشعار بعيد آخر. المهمّ اليوم الفصل بين المتحاربين والمتكارهين، وأيّ فصل يبقى أفضل من التحامهم «الأخويّ».

السابق
لا حلَّ إلا بعودة الدولة!
التالي
جنبلاط يحبس كلامه في قمقم الخوف