ما يُبقينا على قيد الحياة

مرت نحو عشر سنوات على دخولي بفضل الزميلة ليال أبو رحال مكتب الأستاذ محمد أبي سمرا في صحيفة «البلد». لا يفوت عينَي أبي سمرا وأذنيه وأنفه أي تفصيل أينما رميتها؛ هو في كتابة المشاهدات مدرسة. كان مقالي الأول بعنوان «بيروت التي تركتني وحيداً»، عبرت فيه عن حيرة مراهقة تعجز عن الانتماء، سواء إلى يمين العاصمة أو يسارها، تفضل أحياء العاصمة الفقيرة صباحاً والمكلفة مساءً، وتبحث بين الزوايا عمّا يشبه أرجوحة الشرفة في منزل القرية حيث يمضي البعثي والعوني والقومي والكتائبي والشمعوني والشيوعي الليل بطوله في نقاشات تبردها كريات الثلج في كؤوس الويسكي. كان يمكن اكتشاف أجزاء محقة في مواقف المتحاورين وأفكار جميلة، علمتني ألين فرح في «النهار» التركيز عليها في تقاريري أكثر من غيرها. لكن الصحافة بقيت هواية تراوح بين الكتابة النثرية والتعبير عن موقف سياسي وتوفير مصروف جيب صغير حتى دخولي «الأخبار» قبل انطلاقتها بنحو شهرين.
كان جوزف سماحة يود مع قهوته الصباحية اكتشاف مما يتألف التيار الوطني الحر الوافد إلى محوره، وكيف يفكر شبابه، وعلاقة خيارهم السياسي المستجد بضغط الحريرية السياسية على طبقتهم المتوسطة الاقتصادية. تغير معه مفهومي للعمل الصحافي برمته: إنه أسلوب حياة. تستيقظ قبل استيقاظ كل الآخرين لتقرأ كل الصحف، بما في ذلك صفحات الرياضة والفن، حتى لا تظهر أمامهم بمظهر الجاهل لبعض التفاصيل، فيستسهلوا إمرار هذه المعلومة الخاطئة وتلك عليك. تجمع معلوماتك قبل الظهر، تفكر على الغداء في ما ستكتبه، تجري اتصالات إضافية ثم تكتب. وحين يعود الآخرون إلى منازلهم، تلتقي أنت بمصدر آخر ويبدأ عقلك بالبحث عما سيكتبه في اليوم التالي.
حين تضطر إلى مساندة أهلك في العمل منذ سن التاسعة، فتتنقل بين كروم العنب ومواسم البندورة وإيصال غالونات الحليب إلى المنازل، بما فيها بيوت زملائك في المدرسة، وتمزج الحياة القروية الصيفية بحياة طرابلس المدينية شتاءً، وتجد لاحقاً أنّ اختصاصات جامعية وكليات وجامعات هي حكر على طلاب دون غيرهم، وتخوض تجربة حزبية وطلابية أساسها الانتخاب، تختار ملفاتك الصحافية بطريقة مخالفة لطريقة اختيار زملائك ملفاتهم، وتختلف مقاربتك للمواضيع أيضاً.
نضجت الحيرة قليلاً: يتعين في حضرة رئيس تحرير مثل خالد صاغية أن تحسم انتماءك إلى الصحافة أو التيار الوطني الحر. فكتب رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون نص إقالة حزبية عزاها بعد محاكمة حزبية سريعة إلى «إعطائي الأولوية لعملي الصحافي على عملي الحزبي». وتغيرك تلك التجربة: حين «تعطي الأولوية لعملك الصحافي» على حساب علاقتك بزعيمك، ينسحب ذلك على أشخاص كثر وأشياء وفرص عمل. حين لا تحسب حساباً لعلاقتك الشخصية بمثالك الأعلى في إحدى مراحل حياتك، لن تحسب حساباً لعلاقتك بنائب هنا ووزير هناك ومرشح يظن أنه بدعوتك إلى غداء أو عشاء إنما يصبح صديقك وتغدو مديناً له بأمر ما. مع العلم أن هذه المهنة توطد صداقات كثيرة، وخصوصاً مع مصادر تتعلم كيف تحافظ عليهم ليحافظوا عليك.
تعود من قرى الشوف المهجرة مع شعور بأنك ستعيد غداً المهجرين إلى منازلهم. تتوقع أن تتصل بك أجهزة التفتيش قبل توزيع العدد الذي كتبت فيه عن رؤساء بلديات فاسدين. تثق بأن الوزراء والنواب يأتون ويذهبون، أما أنت وقلمك والقراء فأمامكم العمر كله. لا تصدق ما تقوله الزميلة رولى مخايل حين ترى حماستك للعمل، بأن سن اليأس الصحافي سيزحف صوبك ما لم تذهب أنت إليه. لكن سرعان ما تكتشف أن النائب الذي وثقت به إنما يستعمل المقال الذي زودك بمعلوماته لتحسين ظروف شركة في صفقة ما. لا أحد يبالي فعلياً بالفساد هنا وهدر المال العام والظلم اللاحق ببعض الأشخاص هناك. وسرعان ما تجد نفسك في قاعات المحاكم لكتابتك عن فساد رئيسة دائرة الأحوال الشخصية في وزارة الداخلية، فيما هي تتنعم بهواء المكيفات في مكتبها في الوزارة.

السابق
المقاومة وبناء الدولة في إطار واحد..
التالي
لهذا يرفض حزب الله إستبعاده حكومياً