الراعي: وضع لبنان لا يتحمل الانتظار ولا يمكن ربطه بأحداث سوريا ومصر والعراق

إختتم البطريرك الماروني الكاردينال مار بشاره بطرس الراعي زيارته الرعوية لرعايا أبرشية بيروت المارونية في المتن الأعلى، والتي رافقه فيها رئيس آساقفة بيروت المطران بولس مطر والنائب البطريركي العام المطران بولس صياح، بقداس إلهي في ساحة المتين بعدما كان زار بيت الموحدين الدروز في المتين وكنيسة سيدة الخلاص في مشيخا وكنيسة مار شربل (قيد الإنشاء) ومركز الصليب الأحمر في وطى المروج- غابة بولونيا وكنيسة مار مخائيل في بنابيل.

وشارك في الذبيحة الإلهية أكثر من 3 آلاف شخص بينهم وزير السياحة في حكومة تصريف الأعمال فادي عبود والنائبان سليم سلهب ونبيل نقولا ووفد من الموحدين الدروز في المتين والجوار ورئيس الرابطة المارونية سمير أبي اللمع ورئيس بلدية المتين زهير أبي نادر.
وبعد الإنجيل، ألقى الراعي عظة جاء فيها: “أسرار ملكوت الله هي المختصة بسر علاقة الله بالعالم وبتاريخ البشر. وهي: أسرار الخلق والعناية الإلهية، وتجسد ابن الله وخلاص الجنس البشري بالفداء والقيامة، وحلول الروح القدس وولادة الكنيسة، أداة الخلاص الشامل وعلامته، الفاعلة والشاهدة بقوة الروح القدس. فيؤكد الرب يسوع في إنجيل اليوم أن المؤمنين والمؤمنات “يُعطون أن يعرفوا أسرار ملكوت الله” (لو8: 10)، التي يشرحها بالأمثال، ومن بينهم مثل الزارع”.

وأضاف: “يسعدنا أن نحتفل معكم بهذه الذبيحة الإلهية هنا في ساحة المتين العزيزة، في ختام اليوم الثاني من الزيارة الراعوية لقسم جبلي متني من أبرشية بيروت العزيزة، بدعوة كريمة من سيادة أخينا المطران بولس مطر، راعي الأبرشية. ولقد زرنا اليوم بكثير من الفرح كلا من رعية المروج حيث احتفلنا بالذبيحة الإلهية، ومار مخايل بنابيل حيث التقينا برعايا الخله وعين الصفصاف، ثم زرنا رعيتي وطى المروج ومشيخا. وقد خرج أبناء كل هذه الرعايا وبناتها لاستقبالنا بكل محبة وابتهاج. فإني أحييكم وأحييهم بمحبة كبيرة وأشكركم على حضوركم وحسن استقبالكم وعلى اليافطات الغنية بمضامينها. كما أحيي الأب شربل خادم هذه الرعية وجميع الآباء من الرهبانية اللبنانية المارونية الجليلة الذين يخدمون رعايا المنطقة. كما أُسعدت بزيارة الأخوة الموحدين الدروز في خلوتهم، شاكرا حسن استقبالهم وكلماتهم اللطيفة، واحيي صاحب السماحة شيخ العقل الذي يمثله بيننا فضيلة الشيخ القاضي غاندي مكارم. إني أُحيي رئيس البلدية ومجلسها والمخاتير وسائر فعاليات المتين المدنية والكنسية، وأشكرهم على الترتيبات المختصة بالزيارة. وأُعرب عن شكرنا وامتناننا للمواكبة الأمنية التي أمنها ويؤمنها الجيش والدرك وشرطة البلديات.

ويطيب لي أن أقدم معكم هذه الذبيحة المقدسة أجلكم، صغارا وكبارا في المتين وسائر البلدات التي زرناها والتقيناها، ملتمسين لكم فيض النعم الإلهية. ونصلي من أجل المرضى والمسنين، طالبين لهم الصحة والشفاء وتقديس الذات. ونذكر موتاكم راجين لهم الراحة في الملكوت السماوي، وللمحزونين العزاء عن فقدهم. ونصلي من أجل لبنان وشعبه، طالبين له الاستقرار والسلام، والخروج من أزماته السياسية والاقتصادية والأمنية. كما نصلي من أجل السلام في منطقة الشرق الأوسط، ولاسيما في العراق ومصر وسوريا”.

وتابع: “تحية كبيرة للمتين العزيزة وأهلها، مسيحيين وموحدين دروزا. فالمتين أم قرى المتن. دعيت بهذا الاسم لأنها كانت قاعدة الأمراء أبي اللمع، وقد جعلوها قبلة إمارتهم ومركز سكنهم، وبنوا لهم كنيسة، وشيدوا قصورا رائعة الجمال هندسيا وفنيا، حول ساحتها الكبرى هذه أو الميدان، وكان أكبرها قصر الأمير قبلان، لرئاسة مجلس إدارة جبل لبنان. وتجملت البلدة ببيوتها الحجرية اللبنانية الجميلة بهندستها، وبجنائنها ومياهها، فضلا عما تحوي من آثار رومانية تتمثل بالأبراج والقبور والنواويس المحفورة في الصخر والأقنية. وقد اعتبرت المتين بمرسوم جمهوري صادر في سنة 1975، بلدة ذات طابع أثري.

ولا يسعنا إلا أن نذكر بنوع خاص ابن المتين، المثلث الرحمة المطران خليل أبي نادر، رئيس أساقفة بيروت السابق والكهنة والرهبان والراهبات الذين أعطتهم من عائلاتهم المسيحية الملتزمة. كما نحيي الرهبانية المارونية التي يخدم آباؤها البلدة راعويا، وتربويا بمدرستها التي تأسست في ذلك العهد. ونحيي أيضا موسيقى المتين الحاضرة في مختلف الاحتفالات الدينية والاجتماعية والوطنية”.

وقال: “من مآثر هذه البلدة العزيزة كنائسها: كنيسة مار جرجس مع مذبح على اسم مار الياس التي كرسها المكرم البطريرك الكبير اسطفان الدويهي في أول نيسان 1672، وتعرضت حديثا للحريق فأعدتم تشييدها متضامنين. وكنيسة السيدة العذراء التي كرسها البطريرك يعقوب الحصروني في 9 آب 1722، وكنيسة مار يوحنا التي شُيدت في عهد المطران طوبيا عون سنة 1858”.

وأضاف: “ملكوت الله هو العلاقة العضوية بين الله وعالم البشر، فالعالم صنع يديه، وموضوع فدائه والخلاص، وعليه يبني اللهُ ملكوت القداسة والنعمة، ملكوت العدالة والمحبة والسلام. يبنيه بالكلمة التي “كلم بها آباءنا منذ القديم بلسان الأنبياء مرات كثيرة وبمختلف الوسائل، كما نقرأ في مستهل الرسالة إلى العبرانيين، وفي هذه الأيام الأخيرة كلمنا بابنه يسوع المسيح الذي به خلق العالم، وهو بهاء مجده وصورة جوهره، ويحفظ الكون بقوة كلمته” (عب1: 1-3).
يدعونا الرب يسوع، في إنجيل اليوم، إلى أن نبني ملكوت الله بقبولنا كلمته الموحاة كما تعلمها الكنيسة بعقيدتها، وتحتفل بها بليتورجيتها، وتعيشها حضارة أخلاقية وثقافية. ويدعونا الرب يسوع لنقبل كلمته بعقول تواقة إلى معرفة الحقيقة، وبضمائر حية تصغي لصوت الله في أعماقنا، وبقلوب منفتحة على محبة الله والناس. فإذا قبلناها كذلك وجسدناها بالأفعال والأقوال والمواقف، كنا مثل “الأرض الجيدة التي تقبل حبات القمح، فتنمو وتثمر الواحدة مئة” (راجع لو8: 15)”.

وذكر بأن “الرب يسوع يحذرنا في إنجيل اليوم من ثلاثة مواقف أو حالات تعطل قيمة كلمة الله وتعليم الكنيسة وحيويتها، وهي:
اللامبالاة المتمثلة “بالحب الواقع على جانب الطريق”. وهي علامة الإهمال وعدم الاكتراث لكلام الله والآخرين.
والسطحية المتمثلة “بالحب الذي يقع على الصخرة”. وهي علامة التحجر في العقول والقلوب، وفقدان المناعة والحيوية، والنقص في النظرة إلى عمق الأمور، وحسن قراءة أحداث الحياة.
والانهماك في الشؤون المادية، المتمثل “بالحب الواقع بين الأشواك”. وهو علامة حصر الاهتمام بالمصلحة الخاصة والمكاسب الرخيصة، والمغانم المادية، بعيدا عن أي تطلع إلى القيم الروحية والأخلاقية والاجتماعية، أو توق للعمل والتفاني في سبيل الخير العام”.

وأشار الى أن “المتين وبلدات هذه المنطقة اعتادت سماع كلام الله وتعليم الكنيسة، فتقدمت دينيا وثقافيا ووطنيا. واليوم أكثر من أي يوم مضى، ترانا كلبنانيين وبخاصة المسؤولين السياسيين بحاجة لاستلهام هذا الكلام والتعليم. فزمننا الحالي زمن الضياع والانقسامات وتعطيل عمل المؤسسات الدستورية، والأخطار الأمنية، وانحراف العمل السياسي عن هدفه “كفن شريف لخدمة الانسان والخير العام. وهو فن يلتزم، من أجل هذه الغاية، النشاط الاقتصادي والاجتماعي والتشريعي والإداري والثقافي، بحيث تتوفر لجميع المواطنين أوضاع الحياة التي تمكنهم، أشخاصا وجماعات، من تحقيق ذواتهم تحقيقا أفضل” (شرعة العمل السياسي، ص 6).

من هنا، من هذه البلدة التاريخية ومن هذه المنطقة المخلصة للبنان، ندعو الأفرقاء السياسيين عندنا لتحمل مسؤوليتهم التاريخية الحاسمة. فلا يمكن أن يستمر لبنان في حالة من التفكك في أوصاله الدستورية والاقتصادية والاجتماعية. فإذا كانوا حقا رجال دولة، بكل أبعاد الكلمة، بات لزاما عليهم الخروج من متاريسهم الهدامة، وأحكامهم المسبقة ومشاريعهم المضمرة، ونواياهم غير المعلنة، وشبهات خياراتهم، والجلوس الى طاولة الحوار بروح المصارحة والمصالحة، من دون إغفال دور المثقفين وسائر فعاليات المجتمع اللبناني وهيئاته الاقتصادية والإنمائية والتربوية”.

ورأى أن “لبنان اليوم، قبل الغد، في حاجة الى إعادة إنتاج كيانه في دولة منظمة وقادرة، تساهم فيها كل مكوناته، من دون إقصاء لأحد. فلا بد من اتخاذ خيارات وبدائل جديدة انطلاقا من الميثاق الوطني لعام 1943، من شأنها ان تبلور وثيقة الوفاق الوطني الصادرة في أعقاب اتفاق الطائف بنصها وروحها، وتملأ الثغرات الدستورية، وتعتمد آليات الحؤول دون تعطيل عمل المؤسسات الدستورية، وآليات تفعبلها الكفيلة وحدها بتوطيد الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي. ما يقتضي إسناد المراكز الحكومية والإدارية والقضائية إلى من يتميزون بالكفاية والنزاهة والخبرة، واحترام أحكام القضاء من قبل الإدارة، وتعزيز عمل المجالس والأجهزة الرقابية، منعا لهدر المال العام. وتحقيق الموازاة بين المسؤوليات العامة والصلاحيات، وتعميم المهل الدستورية والقانونية على مستويات القرار كافة ( شرعة العمل السياسي ص 32).
لقد دعا فخامة رئيس الجمهورية الى اتخاذ هذه الخيارات والبدائل، التي حدد مساحاتها في خطاب عيد الجيش في أول آب الجاري بكل صراحة ووضوح، كرئيس للبلاد، مسؤول عن حماية الدستور ووحدة الشعب اللبناني وكيان الدولة، من أجل خير لبنان وكل اللبنانيين.
إنها خيارات وبدائل استراتيجية داخلية وخارجية، إقليمية ودولية. وقد كتب عنها الكثير، وألقيت عليها أضواء، وطرحت حلول. إن الوضع في لبنان لا يتحمل التأجيل والانتظار، ولا يمكن ربطه بما ستؤول إليه الأحداث في سوريا ومصر والعراق. بل ينبغي العمل من قبل الجميع على بناء الدولة القادرة والفاعلة، وفقا لنصوص اتفاق الطائف وروحه. بحيث تكون دولة ذات حكم توافقي قائم على سلطة مركزية قوية، تشارك فيها جميع القوى الوطنية، وعلى لامركزية إدارية موسعة”.

وأضاف: “ينعم لبنان بخصوصية جعلت منه قيمة حضارية ثمينة وإحدى منارات البحر الأبيض المتوسط، المنفتح على حسن العلاقات الثقافية والتجارية مع دول الشرق والغرب. فيه تلاقت المسيحية والإسلام وجعلتا منه أرضا نموذجية لحوار الحضارات والعيش المشترك على قاعدة المساواة والتنوع. ومنه انطلق الحوار الثقافي بين الشرق والغرب، والنهضة الثقافية في العالم العربي، وانتشرت أفكار الحداثة بواسطة المدرسة والجامعة والصحافة. وفي رحابه تقوم المبادرات المسكونية بين الكنائس التي تعيش حوار الحقيقة والمحبة، وفي دستوره يقر الحريات العامة، ولاسيما حرية الرأي والتعبير والعبادة والمعتقد، ويلتزم شرعة حقوق الإنسان، والنظام الديمقراطي”.

وقال: “كم يؤسفنا أن يوصم الأمن اللبناني، أمس الأول، على طريق مطار بيروت بوصمة عار تشوه وجه لبنان، بخطف الطيارين التركيين بدقة واتقان احترافي، فيما أمن الدولة غائب ومغفل. إننا نندد بشدة بهذا الخطف المشين والمسيء للبنان وندينه. ونقول للمسؤولين في الدولة اللبنانية: كفى استهتارا بالأمن ومصالح الناس واحترام الغرباء. كفاكم خلافات شخصية على حساب لبنان ومؤسساته وشعبه. إننا نطالب بالإفراج عن الطيارين المخطوفين في أسرع وقت ممكن. ونجدد النداء بالإفراج عن اللبنانيين المخطوفين في أعزاز، والمطرانين بولس يازجي ويوحنا إبراهيم والكهنة الثلاثة المخطوفين في الأراضي السورية. ونصلي على هذه النية”.

ودعا “من هذا المكان الغني بالتراث الوطني اللبناني الى جمع الشمل والقوى من أجل إعادة إحياء لبنان في كيانه وهويته ورسالته وفي علاقته بمحيطه العربي وبالأسرة الدولية. إن موقعه الجغرافي ونظامه السياسي المميز عن كل محيطه، يقتضي إبعاده عن سياسة المحاور الاقليمية والدولية، وعن التمحور في أحلاف خارجية تخوض صراع مصالح ونفوذ على أرضه وعلى حسابه، مع الحرص على انفتاحه وتفاعله مع محيطه والعالم. بالتالي ينبغي الوصول إلى إعلان حياد لبنان مع تعزيز قدراته الدفاعية، بحيث يكون ملتزما قضايا السلام والعدالة وحقوق الإنسان وترقي الشعوب، اقليميا ودوليا”.

وختم: “لقد أعطي لكم أن تعرفوا أسرار ملكوت الله”(لو8: 10). أجل، لقد عرفنا أسرار الخلق والفداء والخلاص والتقديس. وعرفنا سر الكنيسة التي هي زرع ملكوت الله وبدايته، وهي أداة الخلاص الشامل وعلامته. لكن أسرار الملكوت لا تنحصر في الدائرة الدينية، بل تتعداها لتطال الحياة العائلية والاجتماعية والوطنية. فالإنسان والجماعات هم شركاء الله ومعاونوه في تحقيق تصميمه الخلاصي، وفي بنيان القداسة والحقيقة والمحبة والعدالة والسلام في مدينة الأرض. فيرتفع منها نشيد المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد”.

السابق
قبلان: نحن ضد الخطف وعلى الدولة حزم أمرها ووضع حد للمتجاوزين
التالي
فنيش: اتهام حزب الله بخطف التركيين افتراء