الخطف ضد أنقرة.. أم ضد بعبدا؟

لم يكن اللبنانيون بحاجة لعملية خطف القبطان التركي ومساعده، ليدركوا أن الاستقرار الأمني مسألة افتراضية، تخضع لمعايير استنسابية فئوية، وأن هيبة الدولة وأجهزتها الأمنية هي ضحية المصالح السياسية والحزبية الضيّقة، التي تعرض البلد لمجموعة من التحديات الخطرة، على الصيغة وعلى المصير.
وتخشى الأكثرية الساحقة من اللبنانيين أن تكون عملية الخطف، تخطيطاً وتنفيذاً وتوقيتاً، تتجاوز شعار «بيطلع زوّار بيطلع قبطان»، إلى مجموعة رسائل داخلية وخارجية، لعل أهمها الرد على محاولات تشكيل حكومة حيادية، بدون ممثلي الأحزاب، واعتبار هذه العملية بمثابة «نموذج»، لما يمكن أن يحصل في الشارع من اضطرابات أو فلتان أمني، في حال لم يكن «حزب الله» مشاركاً، بشكل مباشر في الحكومة العتيدة!
وفي حال كانت عملية جسر الكوكودي، طبعة متطورة لتظاهرة «القمصان السود»، أم مجرّد رسالة للسلطات التركية «المتعجرفة» على حدّ قول أحد أنسباء المخطوفين في اعزاز، فإن هذه العملية التي فاجأت كثيرين محلياً وإقليمياً، طرحت علامات استفهام كبيرة تشكّل كل واحدة منها، تحدياً مُعقداً لوجود الدولة، ولمهمة وقدرات أجهزتها الأمنية، ومنها، على سبيل المثال لا الحصر:
1 – من هي «الجهة المحترفة» التي نفذت العملية المشبوهة بدقة وإتقان، واستطاعت تجاوز الحواجز الأمنية، وإيصال أحد المخطوفَين إلى البقاع، على حد ما توصلت إليه التحقيقات الأولية، حتى الآن؟!
2 – كيف جرت العملية على مسرح لا يبعد عن حاجز الجيش ونقطة تمركزه سوى عشرات الأمتار، واستطاع الخاطفون تحويل السير على مرأى من الجميع، طوال فترة رصد وتنفيذ العملية؟!
3 – هل يمكن أن تجري مثل هذه العملية في منطقة خاضعة لنفوذ «حزب الله»، وفي مرحلة يستنفر فيها الحزب أجهزة الأمن والرصد تحسباً لمحاولات استهداف بيئته بسيارات متفجرة، أو ما شابه، على نحو ما حصل في موقف السيّارات في بئر العبد؟
4 – مَن يتحمّل مسؤولية الأضرار الجسيمة التي ستلحق بسمعة ومكانة لبنان، وخاصة مطاره الدولي الوحيد العامل حالياً، في حال تمّ اتخاذ قرارات عقابية من «الاياتا» وغيرها من المنظمات الدولية، واعتبار مطار رفيق الحريري الدولي غير آمن؟
5 – هل يجوز أن يبقى المنفذ الجوي الوحيد للبلد، تحت رحمة الخلافات السياسية، وأسير وضع أمني وحزبي معين، ولماذا لا تُنفذ قرارات مجلس الوزراء بإعادة تجهيز وتشغيل مطار القليعات في الشمال؟

لقد وقف اللبنانيون إلى جانب إخوانهم من أهالي مخطوفي اعزاز، والتقت كل الأطراف السياسية، بغض النظر عن خلافاتها التقليدية، على بذل مساعيها لإطلاق سراحهم، وكاد الرئيس سعد الحريري أن يُوفّق في ذلك أكثر من مرّة، وحظي تحرك الأهالي باتجاه المؤسسات التركية بتفهم الكثيرين، ولكن لم يكن يخطر ببال أحد أن تتم المخاطرة بما بقي من سمعة البلد ومكانة الدولة، وتعريض الالتفاف الوطني حول قضية المخطوفين للاهتزاز، بل وإضفاء لون حزبي وطائفي محدد على قضيتهم التي اعتبرت، منذ الساعات الأولى، قضية وطنية وإنسانية بامتياز.
لا جدوى من مناقشة مسألة الخطف والخطف المضاد، فمثل هذه الخيارات مُدانة بأشد مقاييس الإدانة، لأنها تتناقض مع أبسط مبادئ شرعة حقوق الإنسان أولاً، ولأنها أيضاً تتعارض مع القاعدة الشرعية المعروفة: «ولا تزر وازرة وزر أخرى».
وكما قلنا بالأمس، إن استمرار احتجاز المخطوفين اللبنانيين في اعزاز ينطوي على ظلم كبير، يتناقض مع العقيدة التي يرفع شعارها «لواء عاصفة الشمال» السوري ولا ينسجم مع المبادئ والقيم التي يُنادي بها الثوار في سوريا، كذلك نقول اليوم أن تقصير بعض المسؤولين الأمنيين الأتراك، في معالجة هذا الملف الذي يزداد تعقيداً يوماً بعد يوم، لا يُبرّر خطف أبرياء من التابعية التركية، لا علاقة لهم بالخاطفين لا من قريب ولا من بعيد.
ولكن أخطر ما في هذه القضية، أن يتم توظيفها في زواريب السياسة المحلية اللبنانية، واعتبارها بمثابة «إنذار» موجه إلى مَن «يعنيهم الأمر»، بتشكيل حكومة حيادية، يصل إلى حدّ التهديد بإقفال طريق المطار، وتعطيل الملاحة الدولية، ولو أدى ذلك إلى عزل البلد عن العالم، وخنق البقية الباقية من اقتصاده المتهالك

السابق
مشروع إنمائي لبلدات جبل عامل
التالي
اصالة في ضيافة عباس