بلاد «لمَ لا؟»

تتجاور في لبنان اليوم صنوف مختلفة من الجرائم. بعضها ناجم عن تزايد الفقر والتوتر الاجتماعي الذي يرافقه. بعض آخر ينتمي إلى العنف السياسي الصريح. لكنها الصنوف كلها تتشارك في رسم صورة مقلقة لهذا البلد.
ومن الجرائم التي تكثر هذه الأيام، تلك التي يمكن وصفها بجرائم «لمَ لا؟». فإذا كانت ممارسة الأجهزة الأمنية مهماتها مختلة إلى الدرجة الفظيعة التي نراها، حيث يجري احتجاز صحافي وإهانته بسبب «شبهة» مدونة على الإنترنت، مقابل تجاهل قوافل من المسلحين تصول وتجول في طول البلاد وعرضها لتعيث في الأرض فوضى وفساداً، فـ «لمَ لا» يُخطف هذا المواطن أو ذاك لمبادلته بفدية.
ولمَ لا تطلق النيران من الرشاشات الثقيلة بين المنازل عند عودة القتلى المشاركين في المعارك في سورية؟ ولمَ لا يصبح العثور على جثث مصابة بطلقات الرصاص حدثاً يومياً لا يستحق إشارة في وسائل الإعلام. يضاف إلى ذلك أعمال التفجير والاغتيال والحروب الأمنية الصامتة الدائرة في لبنان بين قوى غامضة ومعلومة. يحصل ذلك في وقت تبدو فيه أجهزة الدولة وقد خرجت من رقابة القانون وانضوت انضواء صريحاً من دون أي تردد، في منظومة الولاءات الطائفية – السياسية وآليات هيمنتها.
وليس جديداً القول إن ظهور مئات المسلحين في وضح النهار للمشاركة في معارك العشائر والعائلات (الكريمة؟)، على غرار ما يجري كل أسبوع تقريباً، علامة على انحلال الدولة وتفكك أوصالها. أو أن عمليات الخطف المتبادل على خلفيات مذهبية وجهوية، تعمّق الانقسام وتفاقم خطر اتساع الصراعات المذهبية وانقلابها حرباً أهلية.
بيد أن قدامة الكلام هذا لا تلغي ضرورة تكراره، من جهة، والتساؤل عن المخرج من الوضع القائم وفي اتجاه أي أفق تسير هذه البلاد.
من البداهة القول إن انتظار تشكيل حكومة جديدة لا يعول عليه. فالأزمة اللبنانية وصلت إلى عظم النظام ونخاعه الشوكي. وسواء أسفرت الاتصالات والتسويات عن تسهيل مهمة الرئيس المكلف تمام سلام في تأليف حكومته أم أخفقت، فالحكومة المقبلة لن تتمكن من العمل خارج موازين القوى الحالية والتي يصح التكهن، ومن دون مجازفة، أنها ستصيب أي تشكيل حكومي بالشلل الرباعي. عبء الوضعين في داخل لبنان ومحيطه، لا يتيح لأي حكومة أن تعمل في مجال الخدمات الذي بات ساحة للمبارزة بين القوى السياسية، على ما تشهد ملفات الكهرباء والاتصالات – مثلاً لا حصراً- ولا في مجال الإصلاح السياسي الذي يبرز الفشل في إقرار قانون انتخابي كأبسط نموذج على استحالته حالياً.
انتظار التطورات السورية، من جانبي الاستقطاب اللبناني، لعبة أقل ما يقال في المشاركين فيها، إنهم عديمو المسؤولية حيال بلدهم. ففي الوقت الذي يعتقدون أنهم يستطيعون الاستمرار في لعبة عض الأصابع، تتطور ديناميات وآليات اجتماعية، في داخل كل جماعة وبين بعضها، تهدد بانهيار سيبلغ من الشدة بحيث يعصى على البناة العثور على أحجار صالحة لتشييد مبنى الوطن المقبل ومعناه.
وعلى غرار صغار التجار، يفضل السياسيون اللبنانيون التعامل بالقطع الصغيرة وبالمياومة السياسية، بدلاً من أن يجهدوا أنفسهم في عقد صفقات كبيرة تضمن قدراً من الاستقرار للأجيال المقبلة. عذرهم في ذلك مزدوج. فما هم غير ورثة تركيبة مهترئة باتت غير قابلة للإصلاح، أولاً، ولا يواجهون في واقع الأمر أي اعتراض جدي من جمهورهم المستعد لبذل الغالي والنفيس دفاعاً عن كرامة الطائفة والمذهب.

السابق
الترميم مستمر ومربع الاسير خال من اهله
التالي
مسؤول اسرائيلي: نصرالله يهدد كثيراً